الخميس - 25 نيسان 2024

إعلان

لبنان أمام المسألة الشرقية الجديدة

الدكتور داود الصايغ
A+ A-

الشرق العربي يترنح بين الحدود والأنظمة، بين التاريخ والجغرافيا. و"الدولة الإسلامية" تحاول مد أشرعتها السود ما بين كوباني وطرابلس، تحت راية إسلامية مشوهة لا تعترف بالحدود الحالية، وفي مغامرة لن تنتهي إلا بالفشل، مثلها مثل كل المغامرات المظلمة التي شهدها الشرق والغرب معاً، على نحو ما تفيد التجارب ومنطق الحياة.
لقد استيقظت الخلايا الغافية منذ أيام الحجاج بن يوسف، واستخرجت سيوفه المغمسة بدماء رؤوس العراقيين التي قطعها أو قطفها في لغته الأدبية السوداء، وذلك بعد انطواء اربعة عشر قرناً على ذلك التاريخ. علما ً بأن كلام الحجاج، الذي ربما من شدّة قسوته، لم يعد يظهر في البرامج التربوية في لبنان، لئلا يخدش المخيلات الطرية لطلاب المدارس. فكانت النتيجة أن أصبح هؤلاء يشاهدون عمليات قطع الرؤوس مباشرة على شاشات التلفزة.
هذا ما يحدث في عالم اليوم. ولذلك فهو قلق وخائف. يسأل من أين جاء هؤلاء، ويعطي البعض الأجوبة وفق ما يوافق ضميره، أكان عالماً أم لا. "إن داعش هو الأبن غير الشرعي لصدام حسين وبن لادن" قال أحد الإختصاصيين الفرنسيين منذ أيام في مجلة "الأكسبرس" الفرنسية. كان بن لادن عدو الغرب وأميركا، أما داعش فهو عدو الجميع.
إنه كلام ينطلق من الحدث، من الوجع، من مشاهدة الأميركيين والبريطانين والفرنسيين رؤوس مواطنيهم تتدحرج على الرمال العربية، فتحالفوا وقرروا المواجهة.
انضم التحالف الغربي الى الحروب المتراكمة في سوريا والعراق، فإزداد الغموض وتزاحمت المصالح التي من بينها الخصوصية الحادة بين أكراد العراق وأكراد سوريا على سبيل المثال، فضلاً عن شروط تركيا للإنضمام الى التحالف. حرب إقليمية – عالمية كيف ستنتهي، هل بتغيير الحدود أم بقيام أنظمة حكم وكيانات جديدة. ثم أين هو الشرق العربي من الغرب اليوم، والغرب من إسلام اليوم. من مسلمي أوروبا تحديداً الذين يعدّون بالملايين. أليس ذلك بعض الأوجه الأساسية للمسألة الشرقية الجديدة.
فتغيير الحدود، إذا تغيرت، لا يقل خطورة عن طبيعة الأنظمة التي ستقوم بعد انتهاء المعارك. إذ ماذا ينفع تغيير المعالم إذا حل أبو بكر البغدادي محل الديكتاتوريين المخلوعين. وماذا ينفع أن تتبدل الكيانات إذا ظل السلاح الكيماوي مستعملاً أمس في حلبجة واليوم في الغوطتين.
مشكلة الشرق العربي كانت في أنظمته المستبدة. لا ذنب في ذلك لمارك سايكس وجورج بيكو، اللذين يحمّلهما البعض مسؤولية إنشاء الكيانات بعد الحرب العالمية الأولى. بالحديد والنار تم حكم معظم شعوب المنطقة، وبخاصة بعد قيام إسرائيل عام 1948. بالكبت والسجون والتصفيات وأجهزة المخابرات والفئوية والفساد عاشت هذه الشعوب طوال عقود. انفقت الثروات الطائلة على خدمة الأنظمة وليس على خدمة الشعوب. إذ لا تقدم مع الديكتاتوريات التي هي صنو التخلف، بصرف النظر عن أهمية موارد البلاد. والنموذجان العراقي والليبي دليلان على ذلك. فالطغيان يعمي البصيرة، ويصيب أصحابه بجنون السلطة.
وعلى رغم ذلك الواقع الذي كان نقيض أنظمة الغرب، فقد تعامل هذا الغرب مع الأنظمة العربية بعقلية المصالح والسكوت المريب، وذلك طوال عقود. وعندما راهن جورج دبليو بوش على إحلال الديموقراطية في العراق عام 2003، تبين أن الرهان صعب المنال، وأن في الشرق الذي تفجر في ما بعد، تحديات أخرى شديدة التعقيد.
هل إن الغرب لم يكن يرى. أم أنه رأى وأشاح نظره، كما حدث في مختلف أعمال القمع السابقة. لكنه ربما، وبسبب هول ما يجري حالياً، أكان على أيدي "الدولة الإسلامية" أم في حروب سوريا، لم يحدث من قبل أن دخل الشرق في ضمير الغرب مثل اليوم. لم يحدث أن انتقلت المآسي بهذا الشكل من الشاشات المتلفزة الى عقول الغربيين والأوروبيين تحديدا ً.
لأنه لم يسبق في تطورات الأحداث المعاصرة أن جرت الحروب وفواجعها بهذه الطريقة المفتوحة على الإعلام الواسع، وأن يشاهد العالم كله في لحظة واحدة مشاهد قطع الرؤوس وتهجير الأبرياء في الجبال، وسبي النساء ورجمهن وتدمير المدن والأبنية على رؤوس ساكنيها. ولا تزال كلمات رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون تتردد في آذان الكثيرين، عندما قال منذ شهرين أن هؤلاء الإرهابيين، إذا لم يتم القضاء عليهم، "سوف ينتقلون الى شوارعنا".
ولكن ليس الخوف وحده هو الذي يساور نفوس الأوروبيين اليوم، بل اعتقادهم أن المسافات قد تتباعد بينهم وبين أهل الشرق. ولذلك انتفض مسلمو فرنسا، بعد مسلمي انكلترا، ليرفعوا الصوت بأن ما يجري في العراق وسوريا على أيدي "الدولة الإسلامية" "لا يتم باسمنا" وكانت ردات الفعل قوية وشاملة بعد قتل الفرنسي ارفيه غوردل في الجزائر.
ذلك أن عديد الجيش الفرنسي يضم خمسة عشر في المئة من المسلمين، وفق ما ورد في معلومات لجريدة "الموند" بتاريخ 29 أيلول الماضي. ولأن الإسلام في فرنسا هو الدين الثاني بعد المسيحية الكاثوليكية، ويأتي قبل البروتستانت واليهود طبعاً من حيث العدد، الذي يتجاوز الخمسة ملايين، والذين يمارسون حرية المعتقد والعبادة بصورة طبيعية، في أنظمة الديموقراطية والتعدد وحقوق الإنسان. هذا عدا عن الأعداد الباقية في الدول الأوروبية الأخرى.
لهذا فإن ما يجري في الشرق العربي لا يعني العرب وحدهم. فالعالم انفتح واختلط، وأوروبا واجهت بنجاح تحديات الإندماج، على رغم الحدود المفتوحة بين أعضاء الإتحاد الأوروبي. أوروبا أزالت الفوارق وسجلت ذلك في نصوصها، وفرنسا تعاقب على التمييز العنصري أو الديني، بعدما انخرط في الحكومات والمجالس النيابية والمحلية والبلديات فيها أعداد كبيرة من عرب ومسلمين، فضلاً عن الفاعلين منهم في المجالات الأخرى للمجتمع وبخاصة في التأليف الأدبي والسينما والتلفزيون والمسرح والغناء والرياضة وسواها.
أي شرق عربي سوف يخرج من هذا الجحيم؟ ذلك هو السؤال الذي يرتسم ليس فقط في افقنا، بل في أفق العالم كله. هل يستطيع إعادة الإرتباط بربيعه الواعد الذي كان "كبارقة لم تجد بمائها"، يوم وقف العالم مشدوهاً أمام "الربيع العربي"، قبل أن تتحول المسارات عن الطرق المرسومة، وأن يستعاد بعضها في تونس حديثا ً.
الأمر الواحد الأكيد أن زمن الديكتاتوريات قد انقضى. ولا مجال لإعادة التذكير بأنظمة الطغيان بحجة أن الأمور أصبحت أسوأ بعدها. فالمخاض عسير في المراحل الانتقالية. ولبنان ينتظر وسط الحرائق التي تصيبه بنارها بين حين وآخر. ينتظر بأمل له ما يبرره أن يعود الشرق المحيط به الى الوراء. فلقد مرّ عليه ما لا يقل سوءاً عن "داعش"، وخرج سالما ً في مبررات وجوده الأساسية.
وإذا كان العالم قد تنبه وتجيش بهذا الشكل لمحاربة ظاهرة "الدولة الإسلامية"، فليس ذلك في سبيل إعادة إحياء أنظمة كان لها الإسهام المباشر في الوصول الى هذه الأحوال.
الشرق العربي يخوض حروبه اليوم، بعد نحو مئة عام على إتفاق سايكس – بيكو، ولكن ليس لتوزيع مناطق النفوذ هذه المرة، بل للانعتاق مما ظن البعض أنه كتب في أنظمة الاستبداد. إنها حرب المئة عام الصحيحة هذه المرة في سبيل التحرر ليس من النير العثماني، بل من أي نير كان.

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم