عين الحرية
من الفضائح التي كشفتها معركة كوباني، والتي ربما لم يهتم بها أحد، أن اسم المدينة الذي كان متداولاً قبل المعركة في معظم وسائل الإعلام العربية، عين العرب، لا يطابق ولا يعبّر، بل يتناقض تناقضاً صارخاً مع الهوية المشتركة لسكانها الكرد والعرب وغيرهم، وقد أثبتت المعركة أنها "عين الحرية" وينبوعها المتدفق في مواجهة التطرف بكل أشكاله، وذلك بغض النظر عن الانتماءات العرقية للمدافعين عنها، وإن كان جلّهم من الكرد.
* * *
... إنها تدور
منذ إقامتها بعد وفاة النبي حتى الآن، لم تواجه فكرة "الخلافة الإسلامية" وإطارها السياسي "الدولة الإسلامية"، واستطرادا "تطبيق الشريعة"، رفضاً تحوّل إلى معارضة عنيفة وصلت حد المقاومة المسلحة، مثلما تواجهه الآن لصالح التعددية والدولة الوطنية المدنية، وهو رفض له جذوره في أفكار النهضة وفي التطورات التي حصلت في "بلد الخلافة" بعد نهاية الحرب العالمية الأولى.
فباستثناء جزءٍ من حركة الإرتداد التي حصلت في عهد الخليفة الأول، لم يشهد التاريخ الإسلامي قط حركات معارضة خارج مظلة الإيمان بالإسلام والخلافة- الإمامة كمبدأ، وذلك على رغم خروج تلك الحركات على شخص الخليفة وآليات اختياره، وكذلك على رغم "الشواذ" الذي ذكره ابن خلدون والمتمثل في قول حاتم الأصم (معتزلي) وبعض الخوارج (النَّجَدات) بعدم وجوب نصب الإمام "إذا تواطأت الأمة على العدل"، حيث لم يمنع هذا الشواذ صاحب "المقدمة" من التأكيد أن الخلافة مما انعقد عليه الإجماع.
في هذا الإطار لم تكن التيارات الفكرية المعارضة التي اتُّهمت بالكفر والمروق والزندقة إلا جزءاً من تجليات متنوعة للعقيدة الإسلامية قد ألقى عليها خصومها تهمة الخروج عن الدين وعن ولي الأمر ليسهل القضاء عليها.
تجليات الماضي تلك توضح أن الاختلاف والتنوع هما سمة الحياة، بينما يكشف الرفض المعاصر أن التعددية بكل أشكالها السياسية والدينية والثقافية ستكون سمة الحاضر والمستقبل.
على رغم مأسوية المشهد، ... إنها تدور، يؤكد غاليليو.
* * *
ضعفاء مرفَّهون
هل قرأ الحقوقيون والسياسيون ورجال الدين والمال والأعمال والمؤثِّرون والنافذون والمرفَّهون وكذلك المقموعون والمضطهَدون والمهمَّشون في بلادنا هذا السطر البسيط في كلماته، العظيم في معانيه الإنسانية من مقدمة الدستور السويسري: "لا ريب أن الحر هو فقط مَن يمارس حريته، وأن قوة الشعب تُقاس في رفاهيَّة ضعفائه"؟
إن قرأوا فتلك مصيبةٌ، وإن لم يقرأوا، فَـ، دَستور يا أسيادنا. وإن...
يقال إن هتلر كان يقرأ دائماً قبل ذهابه إلى النوم شيئاً من كتاب "الأمير" لماكيافيلي. ليت كل حاكم، رئيساً أكان أم ملكاً، وارثاً أم منتخَباً، مُحباً لشعبه أم كارهاً، شيخاً كبيراً أم شاباً، مريضاً أم صحيح الجسم والنفس، يقرأ، كلما استفاق صباحاً، هذه الرسالة التي وجهها الإمام موسى الكاظم من سجنه إلى الخليفة العباسي هارون الرشيد: "ما إن ينقضي عليَّ يومٌ من البلاء حتى ينقضي عليك يومٌ من الرخاء، ثم نُفضي إلى يومٍ بلا انقضاء، يخسر فيه المُبطِلون".
ليت جوابهم لا يكون: "وإنْ، ما دمنا نقضيها في الرخاء؟".
* * *
معلّبات فاسدة
لم يكن أبو اسحق الصابئ الذي ولد في بغداد وعاش ومات فيها (ت 384هـ 994م) كبير كتّاب ديوان الإنشاء فحسب، بل كان "أوحد العراق في البلاغة" كما يصفه الثعالبي في "يتيمة الدهر"، و"إمام" فن النثر و"الأوحد فيه" كما يراه ابن الأثير في "المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر" بينما يقول عنه ياقوت الحموي في "معجم الأدباء" إنه "أوحد الدنيا في إنشاء الرسائل"، أما المتنبي فلم يكن يرى غير أبي اسحق مَن يستحق المدح في العراق، وفقاً لما أورده الحموي. وقد وصفه معاصروه بالصدق والإستقامة.
عمل أبو إسحق في بلاط الخلفاء العباسيين والأمراء البويهيين، وحدث أن حبسه عضد الدولة البويهي ثم طلب منه أثناء السجن أن يؤلف كتاباً في تاريخ الدولة الديلمية، "وعمل الكتاب، فكان إذا ارتفع جزء منه، حُمل إلى الحضرة العضدية، حتى يقرأه ويتصفحه، ويزيد فيه، ويُنقص منه". يذكر الثعالبي "أن صديقاً للصابئ دخل عليه يوماً فرآه فـي شغله الشاغل من التعليق والتسويد والتبديل والتبييض، فسأله عما يعمله من ذلك فقال: أباطيل أنمّقها وأكاذيب ألفقها".
أقول: "فساد الرعية بفساد الملوك، وفساد الملوك بفساد العلماء" والعكس صحيح أيضاً. اِمنعوا المعلّبات الفاسدة عن أولادكم.
* * *
و(لـ)ــن
وطنٌ تشيّدهُ الجماجمُ والدمُ/ "تتأقلمُ" الدنيا ولا "يتأقلمُ"