الخميس - 25 نيسان 2024

إعلان

الفرنسي باتريك موديانو "بروست عصرنا" على كرسيّ نوبل الآداب 2014 \r\nفنّان الذاكرة يُعِدّ المائدة لضيوف غائبين

رلى راشد
A+ A-

أيام قليلة فَصَلَت بين ولادة أحدث نصوص باتريك موديانو، وهو الرقم الثامن بعد العشرين في رصيده، وبين الإعلان أن صاحبه قنَصَ جائزة نوبل الآداب 2014، بقرار من الأكاديمية الأسوجية. أيام يسيرة في المعيار الكرونولوجي، تكفّلت تكريس نسق من التمارين الأدبية التي دفعت بنا كقراء، إلى استدعاء الأنا الصغيرة والأخرى الكبيرة. نصوص صارت من طريقها الأنا هي النحن أيضاً، في وسط أطياف تائهة، وفي كنف حياة تراءى أنها لا تخصّ أصحابها حتى. فرَغ الكاتب الفرنسي باتريك موديانو للتوّ من إصدار نص يسأل عما يبقى في المحصلة من الحياة الفردية، سمّاه "لكي لا تضيع في الحيّ"، يستبقي فيه التفاصيل المادية التي تختصر المعيش ولا تعنيه. وها إنه يؤكّد لنا مجدداً عبر فوز جرى إعلانه إعلامياً قبل إعلانه الرسمي، أن ليس هناك أبهى من أن يحارب المرءُ النسيانَ بترياق الكتابة، وأن لا وجود لطموح أرفع من أن يتمّ البحث في وهم التدوين التأليفي، عن الشفاء من حالنا الوجودية.


في كتاب موديانو الحديث، أحد عشر فصلاً من الجمال السرديّ الخالص، من دماثة إنسانية رفيعة تطفو كأنها رغوة بحريّة. والحال أن الكاتب يمهّد لنصّه الوليد مستشهداً بستندال، ومستعيراً منه كلاماً يأتي كخلاصة لتجربته الآتية. وإذ يستمهل موديانو مواطنه الكاتب ستندال في قوله "لا يسعني أن أمنح الواقع للحوادث، ذلك أني لا أقدّم سوى طيفها"، فإنه يجهر بالإنتماء الواضح إلى السلالة الفكرية عينها. بل إن اختفاء موديانو خلف عباءة ستندال، يجعله يتقرّب عفوياً من القامات الأدبية الرفيعة، ويجعله يبرهن أنه وعلى شاكلة مواطنه، راغب في صوغ التاريخ، عبر التسلّل من كوّة الأدب.
في المطبوعات الفرنسية المتخصصة، شاع استخدام صفة "موديانيسك" بالفرنسية المستقاة من شهرة موديانو، للدلالة على نمطه التأليفي الخاص. ها هو في كتابه، "لكي لا تضيع في الحي"، يجيء بالدليل على أسلوب يقترض شيئاً من السحر والإنسيابية إلى جانب قدرة غير مكرورة على الإفصاح عن الطارئ والملحّ والخطير والداهم، على نحو يستدعي البساطة الخداعة.
وإذا كان نصه الأخير يبدأ من الهباء تقريباً، من لسعة حشرة تتراءى تافهةً، على ما يكتب، فإن الأمور لا تلبث أن تصير أشدّ وطأة، تماماً مثل تلك الأسرار العائلية التي تخصّ موديانو وحده، وباتت بفضل معجزة الكتابة وعلى مرّ العناوين، تخصّ القراء جميعاً. هناك عند موديانو، إلى الحديث الشخصي، واقع الاحتلال الداهم. لا شكّ في أن الكاتب وحده يعرف كيف يمزج بين الأقصوصة الذاتية وتلك العامة، فتصير الأولى دعوة للثانية والثانية دعوة للأولى أيضاً. ألم يكتب موديانو: "في كل مرة أنجز هذه اللائحة واستدعي الجميع في هذه الثكنة الفارغة، لا يلبث رأسي أن يدور وتضيق أنفاسي. ناس غريبو الأطوار. حقبة غريبة الأطوار أيضاً هائمة بين الكَلبِ والذئب. يلتقي والداي في هذه الآونة بين هؤلاء الناس الذين يشبهونهم. فراشتان ضائعتان وفاقدتان للوعي في وسط مدينة محرومة من النظرة"؟
في حكايته الأدبية، يغدو دور البنوّة أساسياً بل السبيل الأنجع من أجل التطرق إلى الذاكرة الجماعية، في موازاة الإرتقاء بالإحتلال النازي لفرنسا ليصير ثيمة الثيمات، كما في رواياته الثلاث الأولى، "ساحة النجمة" (1968)، "جولة المساء" (1969)، و"الطرق السريعة" (1972). فأين نبحث إذاً عن جذر الأدب عند موديانو؟ الأصحّ أن نقول إن تجربته تستند إلى روايات كثيرة هي واحدة على السواء، تحوم بين زوايا صورة الوالد، ناهيك بمكانه في التاريخ. في النصوص إذاً برهان على تمزّق تاريخي أصابت سليلي الحرب العالمية الثانية، أكانوا من المولودين خلالها أم من المولودين في أعقابها. وموديانو أحدهم. ذلك أنه إبن جيل الأربعينات من القرن العشرين، وهو بادر إلى الكتابة في موازاة الإحتجاجات الطالبية الفرنسية في 1968، لينال امتياز "غونكور" بعد عقد، بفضل "شارع المتاجر المعتمة". نص تتحرك في نواته شخصيّة بإسم غي رولان، رجل مصاب بفقد الذاكرة. أما "الطُرق السريعة"، حيث راوٍ يبحث عن والده أيضاً وأيضاً، وحيث اقترض أساليب الروايات البوليسية ليمنح السرد نبرة التحقيق، فأتته بجائزة "الأكاديمية الفرنسية الكبرى" في حين وضَعَتنا إزاء ما يمكن أن نسمّيه "جدول أعمال
الحياة".
حين نال الفرنسي جان ماري غوستاف لوكليزيو جائزة نوبل الآداب في 2007، ساد الظنّ أن إسم موديانو سقط تلقائيّاً من السباق إلى الإمتياز الأرفع. كذّبت الأكاديمية الأسوجية التكهنات ومنحت صوتها لحامل نص محبوك تتخلّله الصور الرقيقة. وصفَتهُ اللجنة المكرِّمة بـ"بروست عصرنا" من حيث انتماؤه إلى فن الذاكرة، علماً أنه كتب أيضاً للسينما، السيناريو الذي أنجزه بالإشتراك مع المخرج لوي مال، حيث مراهق في فرنسا، في 1944، تستحوذ عليه فكرة البطولة لكنه لا يلبث أن يغرق في رمال التعامل مع
العدو.
جعل موديانو باريس الأسطورية مطرحَ نصه التخييلي، "مقهى الشباب الضائع"، فأعدّ المائدة لضيوف غائبين. كتبَ: "اليوم أيضاً يصلُ إلى مسامعي في الليل صوت يناديني بإسمي. صوت أجشّ. صوت يتلكأ قليلاً في لفظ بعض الحروف، غير أني أتعرف إليه مباشرةً: إنه صوت لوكي. أستدير غير أني لا أرى أحداً".
هاجس الهوية لا يفارق موديانو تأليفياً، بينما بنى سيرته الأدبية على ثلاث كذبات: الإسم أولاً، وهو جان وليس باتريك، مكان الولادة ثانياً، وهو بولون بيانكور وليس باريس، وعام الولادة ثالثاً وهو 1945 وليس
1947.
عمَد الكاتب إلى تزوير المستندات الشخصية ليتسنّى له التنزّه ليلاً في باريس من دون أن تتعرض له الشرطة. هكذا هي أحلام الكُتّاب: بسيطة وهامشية وساذجة قليلاً، أو ربما
كثيراً.


[email protected]
Twitter: @Roula_Rached77

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم