الجمعة - 19 نيسان 2024

إعلان

نقاش - في تبرئة ابن تيمية والردّ على خالد غزال

محمود حدّاد
A+ A-

من المؤسف أنّ مقال الأستاذ خالد غزال، "ابن تيمية لا يكفّ عن قيادة المسلمين!" المنشور في "ملحق النهار" الأسبوع الماضي (20 أيلول 2014)، يكاد يقع، بصورة لا واعية، على ما نتمنى، في إطار الحملة الإعلامية لتسخيف الفكر الإسلامي (السنّي حصراً!) بانتقائية واضحة، حتى يظن المرء أن هناك حملة ثقافية ممنهجة لتزييف الصراع الدائر في المشرق العربي منذ 2011 وتصويره على أنه صراع ثقافوي لا علاقة للأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية السائدة، وإن كان المقال مكتوباً بلغة الحديث عن الفقه الإسلامي الذي يحتاج إلى تطوير (لا شك فيه) ليتلاءم مع العصر. قد يقال، مثلاً،: كيف دخل "داعش" (وكيف سيدخل تنظيم "خراسان" الجديد الذي بدأ الإعلام الغربي يعظّم صورته) الفضاء الثقافي – السياسي العربي بيسر وسهولة وسرعة لو لم يكن المجتمع الإسلامي السنّي بيئة حاضنة مرحبة؟ يأتي الردّ بسؤال مقابل: كيف كان هذا الدخول العسكري – السياسي الكبير والمفاجئ؟ من أيّده وسلّحه وموّله بهذا القدر؟ أهو الفضاء الثقافي – السياسي الإسلامي العربي أمّ أجهزة دول إقليميّة ودوليّة لا تهتم لا بدين ولا بإيمان، ولحسابات تنافس استراتيجي وتكتيكي أو تصارع عسكري- سياسي في عالمنا العربي السعيد؟


هناك من يريد ذرّ الرماد في العيون وحرف الموضوع أو تزييفه والدفاع عن طبائع الاستبداد بالقول بأطروحة أن المأزق العربي اليوم هو كما كان في الأمس وكما أبداً لا يغير ولا يتغير. فهو ليس في نظم الحكم القمعية الفئوية سياسيًا واجتماعيًا، بل في المجتمع نفسه وفي الجزء الذي يمثل غالبية السكان تحديدًا. كان الشاعر أدونيس في مقدمة هؤلاء وأصرحهم عندما كتب "إن تغيير النظام مشكلة ثانوية... في حين أن المشكلة الجذرية التي نحتاج إلى حلّها هي تغيير المجتمع فإذا كانت هناك قوى ثوريّة فعليها أن تغيّر المجتمع وليس الأنظمة" (الصحف، 21 أيار 2014).
المؤسف أن سيرة تقي الدين بن العباس بن تيمية (1263 – 1328) وفكره أصبحا المثالين الأبرزين اللذين يتقصدهما النافخون – عن وعي أو غير وعي – لاستهداف الجمهور المسلم ("السني" تحديداً) الذي يقوده ابن تيمية حسب عنوان مقال الأستاذ غزال. وهو فكر متهم بالانغلاق وبالسلفية والطائفية وأخيرًا الداعشية. العيب في هذا الكلام، في رأينا، أنه يتم تداوله خارج سياقه التاريخي، مع أن المقال المنشور يذكر ضرورة تناول اجتهادات ابن تيمية وفتاويه، وغيره، عبر وضعها في سياقها التاريخي والظروف التي أملتها. فلماذا لم يقدم الكاتب على ما دعا إليه؟ إن روح المقال تختلف عن نصوص بعض المقاطع الجادة التي تقول مثلاً: "ليس العيب في ما قاله ابن تيمية في زمنه وظروفه، لكن العيب في اعتبار الفقه قد توقف عند الرجل ومعه سائر الفقهاء، سواء أكانوا من السنّة أم الشيعة". سأحاول أن أقارب هنا، جزئيًا وبصورة أولية، المهمّة التي تحدّث عنها الكاتب وإن ظل بعيداً عنها.
لقد كتب ابن تيمية فتاويه المتشدّدة والمعادية للطوائف غير الإسلامية من ناحية والمذاهب الإسلامية غير السنّية من ناحية أخرى، في فترة كانت فيها الدولة المملوكية السنّية منهمكة في حروب حياة أو موت قاسية على جبهتين للدفاع عن قلب العالم الإسلامي ونواته العربية: الصليبيون في الغرب والمغول في الشرق. وكان في هذا فقيهًا مؤيدًا للدولة المملوكية المنغمسة في هذه الحروب الدفاعية وإن الدموية. وكان يرى أن قيام بعض الجماعات غير المسلمة بمهاجمة العقيدة الإسلامية أو بالتحالف مع الصليبيين أمر غير مقبول، وكذا قيام بعض الجماعات من غير أهل السنّة بذلك. كان كتابه الأول، "الصارم المسلول على شاتم الرسول"، كما يظهر من عنوانه، ردًا على قيام شخص غير مسلم بإهانة النبي محمد. وسارت فتاويه اللاحقة على هذا الطريق الذي يربط الرأي بالوقائع لا بالمجردات النظرية.
الحقيقة أنّ ابن تيمية كان فقيهًا وفيلسوفًا مبرزًا لم يقتصر إنتاجه الفكري على الأمور السياسية؛ إذ إنَّ له، مثلاً، كتاب "درء تعارض العقل مع النقل: أو موافقة صريح المنقول لصريح المعقول"، وهو كتاب فلسفي لم يأخذ، حتى الآن، حقّه من البحث، يحاول فيه التوفيق بين الفلسفة والدين على قاعدة أن الإيمان ليس بالضرورة عدو النظر العقلي. أصدر الدكتور عبد الحكيم أجهر كتاباً يبحث فيه مواقف ابن تيمية الفلسفية، "ابن تيمية واستئناف القول الفلسفي في الإسلام" (المركز الثقافي العربي، 2004). بعكس الفكرة السائدة عنه فإن له الكثير من الآراء والفتاوى الوسطية التي تحاول التوفيق بين متناقضات الحياة وقد جمع بعضها الدكتور يحيى ميشو في كتاب "ابن تيمية: ضد التطرفات" نشره بالانكليزية قبل عامين. لهذا، من المعيب الإيحاء بأن قامة فكرية كقامة ابن تيمية لم تكن سوية العقل، ولو أن ابن بطوطة ذكر أن "به شيئاً". فالرحالة العربي الكبير نقل انطباعا عابرا لا يعتدّ به، وهو ليس معصوماً على كل حال.
في دراسة جادة كتبها الأب الأرثوذكسي جورج برباري، الباحث في جامعة البلمند، عنوانها "رائد السلفية ابن تيمية (1263 – 1328) وموقفه من المسيحيين". يذكر بموضوعية يهنّأ عليها إن ابن تيمية كان محاربًا بسيفه ضد الصليبيين في مدينة عكا في العام 1291 ومحاربًا لجيوش التتار في العام 1302 وكذا أرمينيا الصغرى كما شارك في الحملات في 1283 لإخضاع الموارنة ولم تنبع فتاويه بقتال المسلمين من غير المذهب السني من اعتقاداتهم الدينية، بل لمواقفهم في حروب تلك الفترة، فهو يتهمهم، بخاصة أولئك الذين كانوا متمركزين في جبال لبنان، بأنهم دعموا غير المسلمين (من صليبيين وتتار) ونكّلوا بالمسلمين السنّة. أما موقفه من المسيحيين فيذكر الأب برباري الحادثة الآتية التي تعطي فكرة عن سلوكه وأخلاقه: "... تذكر سيرته أنه عندما دخل على ملك التتار غازان (أو قازان) لتأنيبه على محاربة المسلمين مع أنه مسلم، في حين أن أسلافه لم يكونوا على هذا الدين، ومع ذلك كانوا أرحم بأبنائه. تأثر غازان بكلامه وأمر بإطلاق الأسرى المسلمين من دون المسيحيين واليهود. أبى ابن تيمية ذلك، وقال لغازان: "بل جميع من معك من اليهود والنصارى الذين هم أهل ذمتنا، فانا نفكّهم، ولا تدع أسيرًا من أهل الملّة ولا من أهل الذمّة". ويضيف ابن تيمية حول الحادثة: "وأطلقنا من النصارى من شاء الله فهذا عملنا وإحساننا (نحن كمسلمين) والجزاء عند الله".


الهوية اللغوية والثقافية العربية بديلاً من مؤسسة الخلافة
قد يكون ابن تيمية ألهم التنظيمات الدينية ذات الطابع السلفي، كما كان الأب الملهم لحسن البنّا الذي أسس "الأخوان المسلمين" على ما قال خالد غزال، إلا أن من التبسيط المخلّ عدم إدراك بعض نقاط التناقض بين خطاب ابن تيمية وخطاب حركات كهذه، في مسألة رئيسية كمسألة الخلافة الإسلامية مثلاً. فعلى خلاف هذه المجموعات التي تصر على استعادة مؤسسة الخلافة وكذلك العديد من الفقهاء الكلاسيكيين من أبي الحسن الماوردي (974- 1058) إلى أبي حامد الغزالي (1058- 1111) أجرى ابن تيمية تحولاً واضحاً في الفكر السياسي الإسلامي، إذ تجاوز مسألة الخلافة بكاملها وأنكر ضرورتها وكان ناقداً لمعظم أسسها النظرية. حصر ابن تيمية فترة الخلافة بالخلفاء الراشدين ولم يعثر على أي دليل في الفقه الإسلامي عن وجود خليفة واحد بعد تلك المرحلة المثالية، مشيراً إلى الفترات ما بعد الراشدية على أنها "مُلك" عضوض فحسب. قال ابن تيمية إن للشريعة الدور المركزي في الدولة والمجتمع الإسلاميين. إلا أنه، وخلافاً لابن جماعة قبله، لم يفصل مؤسسات الدولة عن الشريعة، بل خاطر بدلاً من ذلك بإرساء "نصف علمانية أو التنازل أمام السياسة الدنيوية" بحسب ما رأى هنري لاوست، بإدخال الواجبات الدنيوية للدولة ضمن تفسير مرن للشريعة.
كان فقهاء الفكر السياسي الإسلامي الذين سبقوا ابن تيمية، كالماوردي والغزالي وابن جماعة، مثلهم مثل الحركات السلفية الجديدة أو المستجدة المعاصرة، أصروا على المحافظة على الخلافة كرمز ضروري لوحدة العالم الإسلامي، على الرغم من الأفول الواضح لهذه المؤسسة، وخصوصاً بعد سقوط الخلافة العباسية في بغداد على يد المغول. اما ابن تيمية فدعا إلى الوحدة الإسلامية من خلال بناء فكري يركز على تأكيد الهوية العربية- الإسلامية لغوياً وثقافياً في العصر الوسيط. فبالنسبة اليه ليست الطريقة الفضلى للوحدة الإسلامية، الارتباط بالخلافة والخليفة، بل من خلال الوحدة الثقافية للعقيدة الدينية واللغة العربية، وهو لم يكن يعتقد أن الكيان السياسي الإسلامي الموحد مسألة واجبة بالضرورة.
عبّر ابن تيمية عن آرائه بهذه المواضيع في "كتاب اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم" مركّزاً على أطروحة أن وحدة العقيدة تستلزم استخدام العربية، اللغة الوحيدة التي سمح بها الإسلام كدين. فهو يقول إن العربية هي أحد شعارات الإسلام والمسلمين واللغات هي من بين أهم الشعائر التي تميّز أمة عن أخرى. وهو رفض استخدام أي لغة غير العربية، فقد كان رأيه أن ذلك مكروه لأنه لا يعزز الأخلاق الإسلامية ولا يقوّي الإيمان. كان تركيزه على ضرورة الاهتمام باللغة العربية من منطلق ديني، فـ"العربية هي أحد رموز الإسلام واللغات من أهم الرموز التي تتميز بها الأمم"، على قوله.
على الرغم من أن ابن تيمية رفض فكرة وحدة الأمة على أساس العرق أو الدم، دعا إلى العودة إلى طرائق صحابة الرسول أو السلف، ولا شك أن هذه الفكرة الأخيرة كانت تحمل معها، ضمنياً، تفضيل الإسلام العربي. وحيث إنه عاش جزءاً من حياته في بلاد الشام التي تأثرت أكثر من مصر بالغزو المغولي، سار ابن تيمية على خطى الغزالي واعتبر الإسلام في خطر بدون شوكة الدولة. شارك مشاركة نشيطة في إعادة بناء الحكم المملوكي في بلاد الشام في الفترة التي تلت انتصاره على المغول في معركة عين جالوت في العام 1260. وهذا قد يفسر تركيزه على ضرورة طاعة السلطان ما دام يتصف بالعدل وملتزماً الشريعة في المجتمع. أما المغول فأجاز محاربتهم على الرغم من اعتناقهم الإسلام، على أساس أنه يمكن اعتبارهم فرقة ثائرة لم تكن تلتزم كل تعاليم الشريعة أو معظمها. على العكس من ذلك، اعتبر مماليك مصر والشام في مقدمة المؤمنين لأنهم كانوا يدافعون عن الأمة ضد العدوان الخارجي المغولي. لن أطيل في شرح الأطر والسياقات التاريخية لشرح آراء ابن تيمية، فآراؤه مهمة أيضاً في ذاتها. وإذا كان البعض، من ناقديه أو من مؤيديه على السواء، انتقائيين في اجتزاء الوقائع والأقوال والفتاوى، فهذا ليس ذنبه. إلا أننا يجب أن نبحث في احتمال أن تكون بعض الاتجاهات الشعبية أو الشعبوية ترى أنها مهدّدة كما كان مهدّدًا بالغزو الخارجي الغربي من ناحية، وبالسلطة العسكرية السياسية الداخلية التي تعشق تحديث القمع ولا تحكم إلا فئويًا وتقسم الدولة والمجتمع افقيًا وعموديًا وتسلّط جزئية مجتمعية ضد جزئية مجتمعية أخرى. إذ حلّ الاستعمار الحديث مكان الصليبيين وحلّت الدولة العربيّة القمعيّة محلّ التتار أو المغول. بالإضافة إلى أن بعض الإتجاهات الشعبوية تجد في الماضي التليد المواساة والتعويض عن الوضع الراهن الذي تجد نفسها أسيرة له، فتروح تقرأ التراث الفقهي الإسلامي قراءة خاطئة. صحيح، مثلا، ان "داعش" دمر الكثير من الأماكن الأثرية والثقافية بسبب إيديولوجيته التكفيرية، إلا أن المدفعية والبراميل المتفجرة التي ألقتها طائرات السلطة الحاكمة في الجوار لم تكن أقل همجية، إذ دمرت، وفق تقرير دولي، الفاً وخمسمئة مسجد، كما نُبش قبر خالد بن الوليد في حمص، إضافة إلى شخصيات إسلامية تاريخية أخرى. أما الخارج الغربي فما صنعه خلال فترة الاستعمار (التي يستعيدها اليوم) من تقطيع للرؤوس والرقاب والفرض اللغوي في الجزائر ومن استخدام الغاز السام ضد ثورة 1920 في العراق، ثمّ ممارساته في سجونه من "أبو غريب" إلى "غوانتانامو" قبل سنوات قليلة، لا يشجع أحدًا على تصديق أنّ نشر الديموقراطية والحرية هو في أولويات ما يريده الغرب لنا ولغيرنا.
يكمن المأزق العربي الراهن في أننا لا نواجه نوعًا واحدًا قاسيًا من القمع، بل ثلاثة أنواع: قمع نخب السلطة الحاكمة، وقمع نخب ذلك الجزء من المجتمع الذي يفسر الدين تفسيراً خاصاً بعيداً عن العصر، وقمع نخب الخارج المسيطر على مقدرات العالم. لسنا من أنصار تبرئة الغرب وتابعه الإسرائيلي، ولا تبرئة المجتمع، ولا تبرئة النظام أو الأنظمة، إلا أن ما يساهم في التوصيف الدقيق للحل، قد يكمن في فهم العلاقة القائمة بين تخلّف الأنظمة وتخلّف المجتمع وعداوة الخارج واعتداءاته، فالترابط بينها مسألة جديرة بالبحث والنقاش. وقد تتلاقى مصالح هذه النخب وقد تصطدم أو تتقاطع أو تتحوّل وتتغير، لكنها متفقة على أن العدوّ هو الفرد العربي الحر ومجتمعاته. فكل هذه النخب يشبه بعضها بعضاً في مسارات تصرفاتها وسلوكياتها ونتائج سياساتها. إننا نحاول الهرب من نكبة لنقع في فتنة أو العكس. لم يُبقِ الحاكم ولا المستعمر بابا للمثقفين الليبيراليين إلا أغلقه، فتفرّقوا وارتد معظمهم إلى الهرب الشخصي والصمت المطبق. أما المواطن المسلم، السنّي أو الشيعي، الفقير البعيد عن الثقافة الحديثة، فلم يجد مشرّعًا أمامه إلا باب التنظيمات القتالية التي تنشئها الدولة السلطانية، على غرار الشبّيحة والبلطجية أو التنظيمات القتالية المعارضة التي تحتضنها دول أخرى تبغي زيادة نفوذها الإقليمي بشعارات براقة وتصفية حسابات مع دولة أو دول منافسة. لم يبق خيار أمام هذا المواطن الطبيعي سوى النحر أو الإنتحار أو... الإنتصار على الرغم من تكاثر الأعداء.


 أستاذ جامعي

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم