السبت - 20 نيسان 2024

إعلان

نقاش - رسالة أدبية إلى الأدباء العراقيين

نزار عبد الستار
A+ A-

عاش البيروفي الماهر ماريو فارغاس يوسا أكثر من أسبوعين في بغداد، والسليمانية، بعد حوادث نيسان عام 2003. دخل وخرج من دون أن ينتبه إليه احد، وألّف عن العراق كتاباً طبعه بعد أشهر من ذلك، في اسبانيا، روى فيه مشاهداته واستنتاجاته بشأن الكلمة الأكثر إشعاعا لديه: الحرية.
علمتُ بأمر هذه الزيارة من طريق المصادفة، واعتقد أن الغالبية من الأدباء لم يصلهم خبرها، أو أن بعضهم اكتشف ذلك متأخراً. لا أعرف على وجه الدقة ماذا كتب يوسا عنا، والمقالات التي قرأتها عن الكتاب، نقلاً عن صحف أجنبية، كانت سياسية أكثر منها أدبية.
أتفهم لماذا تسرّع يوسا، وسلق انطباعاته عن العراق على عجل، وأظنه الآن يشعر بالندم؛ فعلى رغم التشابه الكبير في القهر، والشقاء، والظلم، بيننا وبين شعوب أميركا اللاتينية، إلا أن يوسا وجماعته من الذين التقطتهم المنافي وربّتهم أوروبا في أحضانها الحنون يفهمون الأدب على غير ما نفهمه، ويتطاولون على واقعهم بطريقة مختلفة، وليس كما نتطاول نحن بالغيبوبة، وجلد الذات.
ماريو فارغاس يوسا قال مرة عن أدب أميركا اللاتينية إنه كان أشبه بالجزر المعزولة؛ فقد عاشت بلدان القارة الجنوبية وهي منقسمة على ذاتها، الأمر الذي انعكس على إبداعها، الذي انكفأ إلى محليته عقوداً طويلة، عدا أسماء قليلة تجاوزت الخرائط الضيقة مثل بابلو نيرودا، وميغال استورياس. قال يوسا أيضاً إن مغامرته الكبرى بدأت حين قرر تحقيق حلمه في مغادرة البيرو في حقبة الستينات من القرن العشرين والاستقرار في باريس. وإنه اكتشف في باريس أدب أميركا اللاتينية، حيث كان يروَّج له. ربما كانت المحاضرة الموسوعية المؤثرة والعميقة التي ألقاها بورخيس هناك، هي التي فتحت الباب على مصراعيه أمام هذا الأدب المجهول. ثم كانت روايات الكوبي كاربانتييه التي بهرت الفرنسيين بروحها الأسطورية والفانتازية، وتبعه الأرجنتيني خولتازار في روايته المدهشة "لعبة الحجلة" ذات التجريبية اللافتة، والمتاهات السوريالية الفذة. هنا اكتشف يوسا أن قارته المجهولة صار لها أدبها المعترف به، وأن عليه هو الآخر أن يقول للعالم ما عنده.
حين أكتب كلمة شجرة في نص أدبي، فهذا معناه أنني أرفض كل أشجار الواقع. صحيح أننا نحاكي حياة ننسخها، بمكر، عما نعرف، وفي تضامن خائب مع مصيبة كلكامش الكلاسيكية، إلا أن البعض من الذين عايشوا في العراق مرحلة الثقافة الغوبلزية، لا يغريهم عناء إنبات شجرة مختلفة، وجديدة، ونجدهم ينساقون، بدلاً من ذلك، إلى إلغاء الأشجار تماماً.
إن وعياً عميقاً بالتمرد هو خيار وحيد يجب أن يتلبس كل الذين يكتبون، وهذا أمر يختلط أحياناً على الكثيرين، ويغرقهم في الغموض، ويجرفهم خارج تطلعاتهم كما حصل مع أنطوان دو سان اكزوبيري، في سن السادسة، حين رسم حية "بوا" تهضم فيلاً، ولكن كل الكبار الذين شاهدوا الرسم قالوا إنها قبعة.
ثمة أدلة قاطعة على أن الأدب العراقي السردي عبر اختناقاته التاريخية المريرة كان يمتلك الفرصة لإمرار القليل من الاحتيال الأدبي المقبول والمحافظة على موقعه وثقله في الحياة كعنصر من عناصر التغذية الإنسانية. إلا أن الذين اكتشفوا الفرصة، فعلوا ذلك بطريقة شديدة الالتواء ومن دون دهاء. إن الافتقار إلى التأثير يعني وجود خلل في البنية الإبداعية، وهذا الخلل استفحل بدءاً من الانقلاب على الحكم الملكي في العراق، وجرى الاستسلام له حتى بات بنية فكرية قائمة في ذاتها.
من المؤكد أن المنجز السردي العراقي منذ عام 1980 ينقصه الفحص، فهو لم يمر بالمرحلة الفلوبيرية، ولم يقترب من قضية الفن بشكلها المجرد، كما أن القراءة السياسية تحكمت لعقود في المنظومة النقدية العراقية حتى افقدتها قدرتها التقويمية. وعليه، لم تترسخ لدينا التقاليد الأدبية الرصينة، وتضاعفت التابوات، وتعمّق التهميش والاقصاء وتزوير الوقائع. وما لا ينجح العقل العراقي في تجاوزه، كان يُرَدّ إلى عمق الهوة بين مفهوم الحداثة والواقع الاجتماعي. من هنا نجد أن المنظّر السياسي لا يعترف بالمعمارية السوسيولوجية السابقة لحزبه، ويفترض وجود التخلف الاجتماعي، ويعمد إلى تدجين المجتمع وفق نظرياته ومفاهيمه، ويعمل بوسائله الاقتصادية والإيديولوجية على إعادة تأهيل المجتمع، وجعله منضبطاً ليعطي وجوده الشرعية التاريخية.
يوسا كان سارترياً، ونصف أدباء العراق كانوا كذلك. إلا أن الفرق يكمن في الفهم الصحيح للعبة الأدب. في كتابه، "رسائل إلى روائي شاب"، يطرح يوسا تصوراً مميزاً عن الوسائل المتبعة التي تجعل القصص المتخيلة ساحرة. إن من يصفهم يوسا في كتابه بالمتحذلقين، هم الذين يتكلمون عن الموضوع، والأسلوب، والنسق، والرؤية، وغير ذلك. وهو يرى أن هذا بمثابة تحنيط لجسد حي، وأن النتيجة تكون دائماً، وحتى في أحسن الأحوال، ضرباً من القتل. ما الجثة، كما يقول، إلا تذكّر مبهم، شاحب وخادع، للكائن الحي النابض والممتلئ بالإبداعية، الذي لم يحتله التيبس ولم يصب بالعجز والاستسلام أمام غزو الديدان.
يوجد الكثير من الأسباب التي تجعلنا نتعرض إلى هذا القدر من الخسارة الجمالية، إلا أن الأمر يمكنه أن يكون أكثر ايجابية إذا ما حاسبنا بشيء من الحبّ أولئك الذين تمكنوا من رؤية العالم الخارجي قبلنا، وانتهزوا فرصة ما لديهم من خيارات، واحتكّوا بالحقيقة والنور؛ فما فعلته أوروبا مع فئران أميركا اللاتينية، في الستينات، فعلته الأمم المتحدة مع أسود الرافدين من الأدباء الذين تشتتوا في أرجاء الأرض واستطاعوا التحرر من الضغوط التي كانت تخنقنا. لكن ذلك لم يكن مجدياً، حيث لم يجد هؤلاء ما يضيفونه على ما نعرف سوى تضخيم الصخب والعنف نفسه الذي شلّ بصائرنا طوال عقود، وكانت النتيجة أننا لم نعجب بكتبهم الأنيقة التي أخذت تصلنا من دور النشر الشهيرة.
يعدّ العراق من أكثر البلدان العربية تصديراً للمثقفين، إلا أن انعكاسات هذه الهجرة لم تظهر إلا في الشعر بينما بقي السرد العراقي المهاجر أسير أنماطه الفكرية القديمة، وبقيت روح الكاتب نفسه غائبة ومطموسة عن عمله. ربما لأجل هذه الحقيقة بالذات، نرى الأديب العراقي دائم الشرح والتفسير لكتبه ومؤلفاته لاعتقاده بأنه في التواءاته الأسلوبية وانفجارات الأنا ينثر رموزاً لتمرد ضمني، وهو في العادة يوضح ما لم يتمكن من توضيحه في عمله، وهو يعتقد أن الأدب يعتمد على مجموعة الانطباعات الغامضة التي تتولد في أذهان عدد من مدمني المقاهي المثقفة.
إن قوة التمرد يجب أن تنبع من الإرادة الفنية قبل أن تتحول إلى سلوك انساني، وهي حتى في مرحلتها السلوكية يجب أن تأخذ طابع التطابق. فكل الذين نعتبرهم من صنف المتمردين هم أبعد ما يكون عن الشخصية الديوجينية (نسبة الى الفيلسوف الاغريقي ديوجين)، وهم شخصيات تغالي في الأنا على حساب التدقيق، والتحليل، واعادة التركيب. لذا لم تظهر عندنا شخصيات أدبية ساردة يمكنها أن تكون حجر الزاوية، في حين أن في استطاعتنا، لو انتبهنا إلى صفة الوفاء، إعادة الاعتبار الوطني، في أعلى أشكاله، إلى شعراء كبار لم نُعلِ هاماتهم كما يجب، الأمر الذي يجعلنا ننتهي إلى يقين اننا لسنا أمة ساردة.
البيروفي الماهر ينبّه إلى مسائل فنية غنية، منها الاقناع بحقيقة النص الأدبي، وصدقيته، ويرى أن ذلك لا يتم من التطابق مع العالم الواقعي، وإنما يأتي، حصراً، من كيان النص الأدبي المصنوع من كلمات. إن نسيان الطريقة التي يُروى بها النص، هو النصر العظيم للتقنية. إنه يتكلم عن السبائك الأدبية بلغة غير تلك التي نعرفها. يوسا يتحدث عن حيوان الكاتوبليباس الخرافي الذي يلتهم نفسه بنفسه، في إشارة منه إلى جهد الروائي؛ وعن فوّهة البركان، والديناصورات، في إشارة إلى الزمن والواقع؛ وعن العلبة الصينية التي تتضمن أشكالاً مماثلة لها، وأصغر منها حجماً؛ في متوالية تمتد أحياناً إلى ما هو متناهٍ في الصغر، في إشارة توسعية إلى البناء. وعن المعلومة المخبأة، في إشارة إلى مواقف صمت ذات مغزى. وعن الأواني المستطرقة، في إشارة إلى امكان تصوير أكثر من مشهد في المشهد الواحد، متغزلاً بذلك بفلوبير. وهو ينصح دائماً بقراءة رسائل غرام هذا المعلم الفرنسي حين كان يكتب "مدام بوفاري". ولو أنه وجد أحداً من الأدباء العراقيين في انتظاره لقال شيئاً كثيراً عن هذا الفلوبير العجيب.
يقول يوسا في "رسائل إلى روائي شاب" إن عوامل الابداع الأدبي الأساسية هي الحدس والحساسية والتخمين والمصادفة، لذا لا يمكن أحداً أن يعلّم أحداً الإبداع، وان أقصى ما يمكن تعليمه هو القراءة والكتابة. ما تبقى، يعلمه المرء لنفسه وهو يتعثر ويسقط وينهض من دون توقف. وهو ينصح صديقه الشاب بأن ينسى كل شيء ويبدأ، دفعةً واحدة، بكتابة الروايات.

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم