السبت - 20 نيسان 2024

إعلان

ذاكرةٌ تروي مأساة مفقودي الحرب الأهلية

المصدر: "النهار"
فاطمة عبدالله
A+ A-

تتنهّد أم وليد، وتُحمِّل هواء تتنفسّه شوقاً صارخاً الى ابن مُلتبَس. مؤلمٌ نكء جراح عبَرَ عليها الزمن ولم يُرخِ أثراً. المُعذَّبات بالفقد يستدعين التمهّل أمام مصابهن، والتقدّم إليهن بحذر لثقل الوجع. الابن أو الزوج أو الأخ، لا هو حيّ وليس بعد ميتاً. هو الحدثان في آن واحد، حيٌّ في الصور، وميتٌ لانعدام لقاء الجسد. يتدثّر طيفٌ باللمحة الأخيرة قبل الغياب، وتنسال ذكريات تشاء لو تقبض على اللحظة وتخنقها قبل أن تتجرّأ على التحوُّل محض قهر.



الاختفاء ملحُ تحمُّل الجرح
تناجي أم وليد العمري نفسها، "أتوسَّلك التروّي يا امرأة"، برغم غليان القلب. كان السبت، حين خُطِف ابنها خالد، البالغ آنذاك 21 عاماً. يتراءى العام 1982 مرعباً، سلبها إياه، ولم يأبه بسنوات تُعجِّل حتف الأم المُنتظرة بقليل من الأمل. لا معلومة مؤكدة عنه، تخبرنا، مُستذكرة بحسرة كم باباً طالما دقّت. تُرسَم صورة للأم المُعذَّبة بفقد يخلو من أثرٍ أو نَفَس قد يشكّل عزاء. أمهات العذاب لا يَسعدن، كذا أم وليد تقول إنها مذ فقدت خالداً لم ترتد عرساً ولم تشارك في فرح. 32 عاماً، والجرح عوض الاندمال اتّسع، وإذ تُشبِّه أم وليد فقْدَ ابنها بالملح المختفي فجأة، يلوح الجرح مفتوحاً على آفاقه، ويدٌ عملاقة تملأه ملحاً، فيصير جرحين، أحدهما ثبات الزمن على لحظة الفقد، والآخر جرح الحياة وهي تستمرّ من غير الابن، قوامها الكوابيس والقلق.



صنوبر العشق وذكرى الانسلاخ
تُشارك أم وليد حملة "سوليد" تحرّكاتها واعتصاماتها. نسأل رئيسة لجنة أهالي المفقودين وداد حلواني عن المراد من الاعتصام الأسبوعي أمام السرايا الحكومية، والمُنتَظَر من بلد لم يكترث لملفّ المفقودين إسوةً بدول خاضت الحرب وشكّلت لجان تحقيق في الجرائم المُرتكبة. التحرّك رهن تجاوب رئيس الحكومة تمام سلام مع قرار مجلس شورى الدولة تسليم أهالي المفقودين اللبنانيين خلال الحرب الأهلية، كامل ملف التحقيقات في شأن مصير المخطوفين والمفقودين في لبنان، والمبني على تحقيقات اللجان المعنية والقضاء، أجريت العام 2000. ذريعة الدولة لتبرير التقاعس والتعالي على الجراح: "تسليم التقرير خطرٌ على السلم الأهلي"!
يؤلم أم وليد خوف الدولة على السلم الزائف، وقلّة، الى الجمعيات المعنية، تتألم لفقدها ابنها. تحت صنوبرات نهر الأولي العام 1982، جلس خالد يقول: "ويلُ اسرائيل إذ اجتاحت لبنان وفرضت إرجاء زفافي". ثم خُطِف. 4 سنوات، فطلبت الخطيبة الطلاق، وحتى اليوم لم تتزوّج. نخشى سؤال أم وليد عن مصير ابنها: حيٌّ أم غيرُ حيّ، لا نقول ميتاً لقسوة اللفظ. مؤلمٌ أنها فقدت الأمل، وها أمس، في ذكرى خطفه، هربت من البيت، تقلّبَ فيها جمرُها، هدَّها أنّ الوقت يمضي والنور يمسي ظلمات.



سجن مزّة وصور الذاكرة
صلبةٌ ناهيل شهوان، جبلٌ يتحمّل. 28 تموز 1980، استدعت المخابرات السورية زوجها قزحيا الى مقرّها القريب من عمله، فاختفى. 4 تشرين الثاني 1980، قابلته للمرة الأخيرة في سجن مزّة في سوريا، ومنذ ذلك التاريخ، لا معلومات. 33 عاماً، ولا دليل الى أنّ ربّ البيت لا يزال بين الأحياء، أم انتقل الى عالم الموت. اقتفت أثره الى سوريا. ربعُ ساعة التقته آخر مرة، محوطاً بحراسة مشددة. ثم مُنِعت من لقائه بحجة أنّ الزيارات غير قانونية. ترك لها 4 أولاد وهي بعد دون الثلاثين عاماً. نسألها، بسذاجة، من أين لها القدرة على الاستمرار وحيدةً تُكبِّر صغارها وتتابع قضية زوجها. بدت إرادة من صخر، وعوض مواساتها، نتعلّم منها نعمة التحمُّل. "المرء لا ينسى، يستمرّ مُرغَماً".
يهزأ منها عنصرٌ سوريٌ قابلته قبل سنوات تستفهم مصير زوجها. قال إن الوقت يمضي، فكيف تتذكّر؟! أرفق خشونته بالجزم أنّ قزحيا ليس في مزّة. "قد يكون في تدمر، أجابني، وأنهى المقابلة. لم أجرؤ على زيارة تدمر وحدي. هالني أنّ أولادي قد يُيتَّمون. منذ تلك اللحظة وأنا لا أعرف عن زوجي شيئاً". ناهيل لم تفقد الأمل، لم تتزوّج، ولم تُحصِّل له وثيقة وفاة.



"فايسبوك" الخواطر والعلاقة بالأحشاء
تتأمل مريم سعيدي حرم كلية العلوم في الحدت، وتشعر بهيبة ما. 17 حزيران 1982، فُقِد ابنها ماهر، ذو الـ16 عاماً، من محيطها، فصدَّقت معلومة بعد سنوات تُوصِّف لها مقبرة جماعية في المكان. فُقِد ماهر قصيف، وإذ لا نملك سؤالاً بحجم مأساتها، نسأل عن إحساس الأمّ، فتُخبرنا أنه بعد 32 عاماً، لم تعد الأحاسيس تُجدي. بعضٌ من رغبة في التسليم للأحزان، سؤالُها عن علاقتها بآخر أرض وطئتها قدماه. "لا أملك للحرم وصفاً. يعني لي فحسب". يسود التشاؤم، والأهالي معذّبون بالصبر. ثمة حاجة الى سؤال عن فارق الشعور ما بين المفقود والميت، هل هو الألم عينه، وعين القهر؟ للمفقود خصوصية، تجيب، ليس الشعور واحداً، برغم المأساة. لسعيدي صفحة عبر"فايسبوك" تخاطب ابنها بالخاطرة. "لا تزال في الأحشاء يا ماما"، تراقب الشجر في حرم كلية العلوم، وتبكي.



"ليته في إسرائيل"، تقول أمّ البحر
كانت سوسن هرباوي في الثامنة عندما خُطِف شقيقها أحمد من ساحة ساسين. آذار 1976، وإذ لا تذكر اليوم، فهي معذروة لشدّة ما نشأت مُثقلة بالحِمل. نُحركِش في هيئة أمّ لا تقوى على التحرّك من فرط ما تشرّبت الذكرى. أخبرينا عن والدتك، أتشكو طول الأيام واستبداد الصور؟ "تشكو العجز وتدهور الصحة. كفّت منذ 4 سنوات عن ارتياد الاعتصامات. تعاني الانهيار العصبي، وحالها تسوء كلما تقدّم الزمن، ولا خبر يقيناً عن مصير أحمد".
نشاء لو نبكي مع كلّ أمّ تتعذّب. نتدارك سقوط الدمع من أجلهن، فلا نكون ذريعة لأجساد تتهاوى. تخبرنا سوسن أنّ أمها لا تسمح بالاقتراب من صور أحمد، وبأنّها طالما قصدت البحر تصرخ وتنادي السماء علّ أحداً يسمع. دفعت العائلة أموالاً مقابل معلومات لم تكن موثوقة، كأنها بذلك تشتري الأمل. علمت قبل سنوات بأنّ باخرة أقلّت مخطوفين الى إسرائيل، ولعلّ بينهم أحمد. ليته هناك، تقول بحرقة، فقد يعود يوماً. ليته الآن يتنفّس. تنام الأمهات من أجل حلم أن يعود المفقود أو يصبح له قبر.
[email protected]
Twitter: @abdallah_fatima

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم