الجمعة - 19 نيسان 2024

إعلان

نكبة الليبراليين ورهانات المتطرِّفين والمجتمع المدني!

زياد الصَّائغ
A+ A-

في المشهَد التفكُّكِيّ الذي يعيشُه العالَم العربيّ اليَوْم، ما يستدعي التَّفكير في ما يجِبُ فِعلُه لإستعادَة مُبادرة العَقل بَدَلَ الإسترسال في التَّوصيف التَّخويفي، ورفع منسوب التَّوتير باستثارة عُقدة الأقلويَّة أو تدعيم انتِفاخٍ أكثريٍّ.


استدعاءُ العَقل في جوّ المأساة الكارثيَّة التي يعيشُها مواطِنُون عُزَّل في مواجهة إيديولوجيَّة إقصاءٍ باتَت مُحدَّدة الإرتباطات، قد يَرَى فيه البعضُ تحامُلاً على عَجزٍ حتميّ لا إمكان لِتجاوُزِه. من هُنا تتأتّى أولويَّة تشخيص ما نعيشُه في لبنان والعالم العربيّ أَقَلَّهُ على مستوى الذهنيَّة وبَلْوَرة خيارات المواجهة المُتاحة، كيما يكونَ الحُكماءُ، وتحديداً في المجتمع المدني، قادِرين على تصويبِ مَساراتِ الإختِلالاتِ البنيويَّة التي قد تشي بتغيُّراتٍ جيوبوليتيكيَّة مشرِقيَّة آتِيَة، لا يعُود من بعدها إذا ما فُرِضَت بالدَّم، وكما هُو حالُ بداياتِها، لا يعُودُ من بعدِها مكانٌ لِأي عودَةٍ إلى حدِّ أدنى من سُلَّم قِيَمٍ مُشترك، فيتفوَّق العَزْلُ ويعلُو الخوف وتتكاثف الصِّراعات إلى لا نهاياتٍ عبثيَّة.
ما يجري اليَوْم يشير إلى نكبةِ اللّيبراليين المعتدلين، ويفضَحُ رهانات المتطرِّفين، ويستنهِضُ المجتمع المدني، وسنستعرِضُ بإقتضابٍ هذه المُعادلات الثلاث.


أ - نَكبَةُ الليبراليّين
واضِحٌ للعَيان أنَّ الكُتلة الليبراليَّة في المجتمعات العربيَّة لم تستطِع أن تؤثِّر في مواجهة موجات التطرُّف الدّينيَّة المُتصاعدة، والمَقصود منها استنفارُ العصبيَّات للمجموعات المكوِّنة للنَّسيج المجتمعيّ في مُحاولة لضخّ أنَّ في المنطقة العربيَّة أقليَّات وأكثريات، والمطلوب حمايات لها خارجيَّة أو إنشاءُ كيانات مستقِلَّةٍ لها، بما يعني ضرب حالة إمكانِ قيام هويَّة مواطَنة لم تقُم أصْلاً كما يجب.
في كُلِّ هذا فشِلَت الإنتلجنسيا الحُرَّة، كما الكُتلة الإقتصاديَّة الليبراليَّة في إرساء أرضيَّة القواسِم المشتركة والمصالِح المشتركة، كما فشِلت في تثبيت منطق الدَّولة العادِلة لِتُحِلَّ محلَّه رهانات المُحاصصة المنخورة بنَفَسِ فسادٍ مُدمِّر، ما ساهم في بناءِ شَبَكاتِ منتفعين ومنفِّعين إرتاح إليهم الإستبداد وارتاحوا إليه من ناحية، وارتفعت أصواتٌ تمجِّد الدّيموقراطيَّة الكاذبة بالفَوضى التي زرعت من ناحيةٍ أخرى. الإنتلجنسيا الحُرَّة خَضَعت، والكُتلة الإقتصاديَّة الليبراليَّة طُوِّعَت لِحماية مصالحها.
في كُلِّ هذا نُحرت الدَّولة وأغتيل المواطِن ونُهبت الثرواتُ الطَّبيعيَّة وأقصيت الكفاءات البشريَّة، وأُزهِقت رُوحُ نُهوضِ دَولَةٍ مدنيَّة التطرُّفُ المُتصاعد نتيجة الجهل والفقر والقَهر وإنحلال رابطة دولة القانون.


ب - رِهانات المتطرِّفين
من السَّهلِ تبنّي تحليل أنَّ مؤامَرةً ما مبسَّطة أو معقَّدة أنتَجَتِ المتطرِّفين كأمْرٍ واقع. الأصعبُ أن تقرأَ بين سُطور أسباب هذا النِّتاج، كما تداعياتِه قبل أيِّ خَوْضٍ في مجالات مواجَهَتِه.
نكبةُ اللّيبراليين في جُذورِها التي ذكرنا سابقاً مَهدَّت لوحشيَّة المتطرِّفين. وإذا ما كان التطرُّف يأخُذُ بعض المسلمين اليَوم رهينةً، فيما الإسلامُ منهُ براء، فقد يكُونُ في مآلاتِ هذا الرَّهن استِدعاءُ التطرُّف لدى كُلِّ الجماعات المكوِّنة للنَّسيج المجتمعيّ العربيّ، بمعنى إعلاء مستوى الإنتماء الدّينيّ وشدّ عَصَبِ التَّقوقُع حولَهُ، كما توسيعِ مساحاتِ الخوف، وخلق إرتجاف "الأقليَّات" وإستعلاء "الأكثريَّات". وحشيَّة المتطرِّفين خطر على الجميع دون إستثناء.
لا يعدو أكثر من مَوْجَةٍ، قد تطول وتُكلِّف دِماءً طاهِرة كما هُو حاصِلٌ اليَوْم، نعم، إلاَّ أنَّ هذه الموجَة المُجرمة والرَّعناء محكومَةٌ بالإنتحار في التَّاريخ والجُغرافيا والمُجتمع نَفسِه، أمَّا التَّعويلُ على منظومات أمانٍ إقليميَّة ودوليَّة وقائيَّة من كارثيَّتها فيجب التَّعامُل معهُ بكثيرٍ من الحذر من خِلال تساؤلٍ دقيق: "لو كان من مَنظوماتِ أمانٍ وطنيَّة وإقليميَّة ودَوليَّة قِواُها التَّعاون في ترسيخ ثقافة السَّلام، وإرساءِ مبادىء العَدالة، وإحترام حقوق الإنسان، وبناءِ السِّياساتِ الإقتصاديَّة – الإجتماعيَّة المُستدامَة فَهَل كُنَّا بلغنا ما بلغناه؟".
رِهاناتُ المتطرِّفين الأساسيَّة تقوم على تبرير عصبيَّاتٍ دينيَّة بتوليفاتٍ مذهبيَّة وإقتطاعاتٍ جغرافيَّة – إتنيَّة مُحدَّدة بما يُنهي حضارة العالَم العربيّ واحتمالات تطويرها.


ج - إستنهاض المجتمع المدني
أمام نكبَة اللّيبراليّين النَّافرة ورهانات المتطرِّفين السَّوداويَّة لا بُدَّ من استدعاءِ ديناميَّة تحرُّرٍ على كُلِّ المستويات تبدأ بمدِّ الجُسُور بين التكتُّلات المدنيَّة الفاعلة وهي الكُتلة الأكاديميَّة – العلميَّة، والكُتلة الإعلاميَّة – الإعلانيَّة، والكُتلة الإقتصاديَّة - الماليَّة، والكُتلة النَّقابيَّة – الشَّعبيَّة، والكُتلة الدينيَّة العاقلة، إلى هيئات المُجتمع الأهلي والمدني الفاعلة. ومدُّ الجُسُور يعني بناء ديناميَّة تحرُّك لليبراليّين في العَالَم العربي، ويُمكِن لبنان الرِّسالة، وعلى الرَّغم من معطوبيَّة بنيتِهِ السِّياسيَّة، ان يبني هذه الدِّيناميَّة، والدّيناميَّة المقترحة قِوامُها النَّظري يستندُ إلى إعادَة الإعتبار لِمُعادلة النَّاس والمؤسَّسات والسِّياسات في مواجهة ما عِشناهُ سابِقاً في مُعادلة السُّلطة والحاشية والمصلحة.
وهنا يتجلَّى دور التكتُّلات المدنيَّة في الإنتقال من حالة ردَّ الفِعل إلى الفِعل، ومن الإرتجال إلى التَّخطيط، ومن الإستزلام إلى الإستقلاليَّة، ومن الإستفادة الآنيَّة إلى الشَّفافيَّة والرَّقابة الهادِفة.
المجتمع المدني قادِرٌ في هذه المرحلة المفصليَّة على تصويب مساراتِ الإنهيار إن أوقَفَ الإسترسال في تشخيص الواقِع والإستثمار في الخوف وإنماء النّحيب. فالرؤيةُ واضحة في وجهة أخْذِ زِمامِ المُبادرة من خلال تغيير الذهنيَّات وإعادة التَّوازُن بين الدَّولة والقِطاع الخاصّ والمجتمع المدني، ووقف التَّدهور الإقتصادي – الإجتماعي، والحُلول العسكريَّة أيَّاً تكُن فاعليَّتُها، وهي حتماً ضروريَّة، فَهي لن تفي بغَرَض استئصال جذور التطرُّف الإرهاب وإمتداداتِه. الإيديولوجيَّة المدنيَّة تبدأ بالتربيَّة نَعَم، إنَّما تبدأُ أيضاً بتشبيك جُهُود الليبراليّين بالخروج من الإحتفاليَّات الفولكلوريَّة والخطابات الخشبيَّة والزيارات التعبويَّة، فالمطلوب خُطَّة عمل واضحة المعالم. وقد يكون "الإقتصاد الجامع" أَحد الأوجُه التأسيسيَّة لهذه الخُطَّة!


المدير التنفيذي لـ"ملتقى التأثير المدني"


 

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم