بعد أن حوّل ابن خلدون علم التاريخ من "سرد الاحداث" الى تحليلها واستنباط الاسس شبه الحتمية لنشوء المجتمعات وتكوينها وتطورها، ولد علم التاريخ التحليلي، حيث أصبح البحث التاريخي يتعدى اوسع من تدوين الوقائع، وعندها انطلقت الحركة الحديثة لمكاشفة التاريخ بدءا بالجذور.
انطلاقا من الجذور التي تجسد الماضي وبهدف برمجة المستقبل، وضع القاضي بسام وهبه كتاب "ذاكرة تنورين" الذي تميز بشمولية ودقة تكمنان في أنه عالج عددا كبيرا من المواضيع والمعطيات الجغرافية والاحداث التاريخية وتكوين تنورين وأخبار شخصيات منها تميزت بانجازات محلية ووطنية، علمية او قضائية او ادارية او سياسية او غيرها، وتعمق الكاتب بالابحاث والمراجع حتى وصل الى خاتمة استخلص فيها توصيات جاءت كبرنامج عمل لمجتع قوامه "الانسان" الساعي الى الانماء.
يندرج الكتاب في اطار البحث عن جذور بلدة تعددية التكوين ومتنوعة المعالم البشرية والاجتماعية والجغرافية، فهي بالتالي معقدة التركيب من حيث خصائص العائلات والاجباب والمجموعات والافراد والاتجاهات السياسية والاحزاب، فقاربها الكاتب بدقة الباحث وتجرد القاضي وقلم الاديب وشمولية العالم ليسهم في الوقوف على حقيقة الجذور التي تشكل مرتكزا ومنطلقا لتخطيط المستقبل.
أما أهمية الكتاب من حيث توقيته فنتجت من انه جاء كأداة تساهم في معرفة الذات جذورا وواقعاً راهنا في حقبة تعايش فيها تنورين ظاهرتين تطرق اليهما الكاتب في الخاتمة / النداء حيث يخاطب المؤلف "الانسان" ويطالبه بتطوير خصائص القيادة في مجتمعه ويوصيه بالعمل للانماء.
وبالفعل، فإن تعاقب الاجيال يؤدي الى تعاقب نماذج القيادة وتمر تنورين اليوم كما سائر لبنان في مرحلة الانتقال من الزعامة العشائرية المرتكزة على العصبية العائلية / العشائرية الى ظاهرة القيادة الوطنية الصحيحة المنبثقة من الخيارات السياسية.
ان هذا التحول من عفوية الانتماء العائلي الغرائزي الى آلية المقارنة والمفاضلة السياسية المنطقية يستلزم، في ما يستلزم، معرفة الجذور والماضي عامة والواقع الحالي للتفاعل مع الوعي الثقافي، فهنا تأتي مساهمة كتاب "ذاكرة تنورين" لفهم التحول.
أما صحة توقيت الدعوة الى الانماء فنتج من انه تحت تأثير تحول الاهتمام العالمي منذ منتصف القرن الماضي من نمو الدخل الى الانماء البنيوي اعتمدت وثيقة الطائف شعار "الانماء المتوازن"، وأدخل في مقدمة الدستور، غير ان الواقع هو أن الانماء المتوازن بقي شعارا دون فحوى اذ إنه لم يحدد أي معيار او اساس للتوازن (جغرافي او طائفي او طبقي او حسب الحاجة او عدد السكان، الخ...) وبقي تقاسم الانماء على الصعيد الوطني كالصراع على الفريسة خاضعا لشريعة الغاب، فاقتضى أولا تشجيع الانماء الذاتي وفي الوقت ذاته العمل على استنباط قواسم مشتركة تكون محورا لتضامن اجتماعي حول مطالبة بحصة من الانماء الوطني، وذلك على رغم الابقاء على اختلاف الخيارات السياسية، (سواء العصبية منها أم المنطقية)، وتنوعها.
إذ ان شعبا يجهل تاريخه (بالمعنى التحليلي والواسع) يبقى عاجزا عن تخطيط مستقبله فتتقاذفه عواصف التاريخ وتأخذ به الاحداث الى حيث يريد سواه بدلا من الوصول الى أهداف اختارها.