الثلاثاء - 23 نيسان 2024

إعلان

علي السنيّ اللبناني حمل مع عائلة مسيحية بغدادية صليبها

المصدر: زحلة - "النهار"
دانييل خياط
A+ A-

القصة ليست اسلام ومسيحية، فعائلة "ابو داني" المسيحية الكلدانية العراقية وجدت عند عائلة "ابو ركان" المسلمة السنية اللبنانية الملجأ والسند. القصة كل القصة انه عندما تصبح علاقة الطبقة الحاكمة مع مواطنيها مبنية على المصالح الفئوية، وتستقيل السلطة المركزية للدولة من دورها، تضعف الهوية الوطنية لصالح العرق والعشيرة والطائفة، "فتلحق كل عنزة بكرعوبها".


في هكذا اوطان، كل المواطنين مضطهدون في حقوقهم، البقاء فيها للمجموعات التي عندها ما تقدمه على طاولة المصالح. تسودها علاقة الاستقواء من رأس الهرم الحاكم الى القاعدة الشعبية، فيصبح المضطهدون فئتين: فئة "عندها ضهر" وفئة "ضهرها مقطوع"، وفي العراق المسيحيون "ما عندهم ضهر".


غربة في الوطن


في هذه الظروف "عافت" عائلة ابو داني العراقية البغدادية موطن اجدادها، ورمت نفسها في المجهول. لم يصل اليها تنظيم "داعش"، ولا هددها بين الاسلام او الذمية او النحر، ولا صادر املاكها بحرف نون. لكن "داعش" ليست سوى الوجه العنيف الدامي لما تقاسيه الاقليّات العراقية بصمت. في عراق صدام حسين كان الكلّ اقليّات، ظلم في الرعية تخاله الاقليّات المسيحية عدلاَ في الرعية. بعد سقوط صدام، في العراق التعددي، لحقت كل مجموعة بجماعتها، بعدما انحلت فيه السلطة المركزية لصالح اجندات لها علاقاتها ومصالحها خارج الحدود، وحده المكوّن المسيحي افتقر الى اجندة وظهر يحميه. فبدأت عائلة ابو داني تعيش غربة في وطنها، فلما تعرض ولدها مثلا لمضايقات واعتداء من فتية، "مسحتها بجلدها"، فمن اين لعائلة ان تواجه عشيرة حتى على الحق. ضاق عالمها، "مرحبا يا جاري، انت بدارك وانا بداري". الامان جافى بغداد، والتفجيرات تهدد يوميا ايوان صهر العائلة في ذهابه وايابه الى عمله في المنطقة الصناعية، فيما سبق واصيب داني بشظايا احد التفجيرات امام السوبرماركت حيث كان يعمل ووالده. لم يكن ينقص سوى مجيء "داعش"، "اهل الشمال عافوا بيوتهم واملاكهم وسياراتهم وهربوا"، فقررت عائلة ابو داني ان تستبق الامور ولا تنتظر اليوم الذي ستضطر فيه الى ان "تنفد بجلدها" فحسب.


خياران


كان امامها خيارين: تركيا او لبنان، في كلا البلدين لا اقارب لها. عائق اللغة وبسام العلي عززا خيار لبنان البلد العربي، على تركيا. بسام لبناني يعمل في بغداد وتربطه علاقة عمل بـ"ابو داني". كان يكفي لبسام ان يتصل باخيه علي ليقول له بان يعتني بالعائلة الوافدة من قبله الى لبنان، لتجد عائلة ابو داني، التي ما عادت تشعر بان للمسيحيين موطئاً في العراق، ان لها في لبنان "اهل" في الانسانية. اهلها في لبنان، مسلمون سنة، من العشائر العربية، عائلة "ابو ركان"، هي عنوان بحد ذاته، في حي البحصاصة في قب الياس.
الى مطار رفيق الحريري الدولي وصلت العائلة العراقية، السبت في 16 الجاري، فكان علي العلي او علي ابو ركان بانتظارهم، اقلهّم الى منزل العائلة في البحصاصة، حيث اقاموا تحت سقفها اربعة ايام. حاول علي جاهداً ان يخفف عن العائلة الكرب، وليس افضل من مباراة كرة قدم مع داني وايوان لتلتحم العلاقة الانسانية. وضع نفسه في خدمتهم، وسخّر لهم معارفه، بسيارته اقلّهم بين الوكالات والجمعيات التي تعنى بحالات مثل حالاتهم، بين العاصمة بيروت والبقاع، مختصراً لهم صعوبات المسافات الزمنية والجغرافية، لوافدين الى بلد يجهلونه. لكن مهما كان مضيفك كريماً، فان المرء عندما يخرج من داره يشعر بانه "ثقيلا"، حتى انارة الضوء يصبح تصرفاً يحتسبه. وعندما شعر علي، ان ام داني يكبلها الخجل، وجد للعائلة شقة مفروشة ببدل ايجار 600 دولار شهرياً، انتقلت اليها موقتاً، في انتظار ان تنتقل الى شقة ببدل ايجار ادنى، وذلك ايضا بهمّة علي.


بحثاً عن وطن
غرباء تائهون على دروب البلدان بحثاً عن وطن، هكذا هي حال العائلة، التي لا تشاء ان تلتقط صورها، ولا ان تذكر اسماءها، وبالكاد تقبل ان تروي قصتها. من الناحية المعيشية كانت "عيشتهم زين" في العراق، من عرق جبينهم. اختلفت اوضاعهم كثيراً في لبنان المكتوي بنار ارتفاع الاسعار، المزدحم باللاجئين اليه من فلسطينيين وسوريين وعراقيين، وما ضاق بعد كمساحة حرية ممن يفرون من قمع واضطهاد. هم الآن يعيشون كل "يوم بيومه"، لا سند لهم الا ما حملوه معهم من مدخرات يلتهمها سريعاً غلاء المعيشة في لبنان، وعلي الذي تمكن ايضاً من خلال معارفه ان يجد لهم مخرجاً يقيهم شر العوز والسؤال. علي يعرف جيداً ان في لبنان ايضا ان "لكل عنزة كرعوبها"، لذا يستهجن الا تكون لعائلة مسيحية أولوية عند مؤسسات كنسية.


"الوطن حيث يعيش المرء بخير وامان"


لا تعرف عائلة ابو داني وجهتها المقبلة، انما لا عودة الى العراق، "من يقرر ان يخرج لا يعود. لانه يخسر كثيرا، يخسر امواله وارزاقه وعمله". "نرجع لماذا؟ لنبدأ من الصفر؟"، تقول ام داني مضيفة: "نبدأ من الصفر حياة جديدة في مكان جديد"، "الوطن حيث يعيش المرء بخير وامان". ليس فقط لن يعودوا، بل من تبقى من عائلاتهم يستعد للمغادرة. هم من تأخر عن الرحيل، لابو داني اشقاء في اوستراليا والولايات المتحدة الاميركية ولام داني شقيقة في كندا.
البلد، الذي لا نزال نسميه العراق، يفرغ من مسيحييه، وهؤلاء ينتمون الى الفئة التي لا اجندة لها ولا رأس يدبر امورها، حسبها ان تلتقط الفتات الذي سيسقط من الطاولة التي يفتت عليها المشرق، مصالح ودوليات.
القصة عن مسلمين ومسيحيين، ترويها قصة عائلة عراقية اخرى، مسيحية كلدانية، ما عادت تريد ان تعيش مطأطأة الرأس، ولا ان تضع رأسها بين الرؤوس في انتظار قاطعي الرؤوس، قررت الرحيل متسلحة بـ "الله بيعين"، فوجدت في بسام وعلي، في افراد عائلة "ابو ركان العلي" المسلمة السنيّة اللبنانية من يحمل معها صليبها في رحلتها الى غد تأمله افضل، ينمو فيه حفيدهم الذي تحمله ديانا الحامل في شهرها السادس، في مكان يكون فيه ما لقيصر لقيصر وما لله لله.

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم