الجمعة - 19 نيسان 2024

إعلان

عن "وسواس" اسمه لبناني

كلودا طانيوس
A+ A-

يتلفّت دَوريّاً ويسعى للإصغاء لأحاديث من حوله. يظن أن الناس يتكلمون عنه من وراء ظهره أينما تواجد. يرى أنهم يسعَون لإيذائه وأنه موضوع حديثهم الساخر. تستحوذ هذه الأفكار المشبوهة عليه، وتجعله مخاوفه مذعوراً بما أنه يبالغ بشكوكه ويفكّر بطريقة غير عقلانية. إنه المرتاب، أو "المْوَسوَس" كما يُقال بالعامية.


 


مبالَغة في الأفكار السلبية
ما يجمع بين "الموسوسين" (علماً أن التوصيف خاطىء كما سيوضح العلم في سياق النص) هو ظنّهم الدائم بأن هناك أمراً سيئاً سيحصل، ويمتد تأثير "الوسواس" على الشخص عندما يرى أن هناك شخصاً معيناً (أو أشخاصاً) هو السبب في ما يحصل من أمور سيئة، فتبدأ الاتهامات العارية من الصحة والافتراءات والتهديدات، وتتوتر العلاقة بينهما.
هذا الشعور الدائم بالتهديد وبالخوف يظهر من خلال اعتقاد المرتاب أنه سيتعرض للأذى النفسي والعاطفي، أو الجسدي، أو للضرر المالي، ما يشرح شكَّ البعض في أن هناك من ينشر الشائعات عنهم أو حتى يحاول قتلهم، والمشكلاتِ بين رجال الأعمال أو السياسيين بما أنهم يظنون أن هناك من يسرقهم ويسعى للاستيلاء على ممتلكاتهم الخاصة أو الاحتيال عليهم.
عندما تتطور وتتعقد هذه الأفكار السلبية، تؤدي بصاحبها للشعور باليقظة الدائمة وبالرعب، فيصبح معزولاً اجتماعياً ومنهكاً، ويعيش بالأوهام. هكذا حالة ليست شائعة ولكنها تؤثر جداً في نوعية الحياة اليومية عند الإنسان، إذ يرى أنه مضطهد من الجميع.


 


مريبٌ لشخص، عادي لآخر
لا يزال جنون الارتياب (Paranoia) غامضَ المعطيات، إذ لطالما تمّ جمعه مع القلق أو مع الاكتئاب، ما يشرح الالتباس في تحديد ما هو مريب وغير مريب. إذ قد تحدث أمورٌ أحياناً على الشخص أن يشعر بالخوف بسببها وأن يحذر منها، فيما يبدو مرتاحاً وغير آبهٍ أو مهتمٍّ فعلاً بخطورة الأمر، خلافاً لبعض الأشخاص الذين يقلقون جدّاً ويعتبرون أن هناك تهديداً خطراً يواجههم.
لكن ما يحدد "درجة الارتياب" عند الشخص هو ما إذا شعر بالتهديد والخوف، بحسب ما تذكر المنظمة الخيرية البريطانية للصحة النفسية Mind في توصيفها للتفكير الارتيابي (Paranoid Thought)، وتوضح أن العديد من الناس يختبرون أموراً وأفكاراً غير منطقية أحياناً، لكن هذا لا يعني بالضرورة أنهم أصيبوا بجنون الارتياب.
ما يتحكم بالأمر هو الموضوع والتجارب الحياتية، فعندما يتمتع الشخص بعائلة محبّة وداعمة وأصدقاء أوفياء، يكون اعتقاده بأن هناك أحداً من أعضاء العائلة يحاول أذيته غيرَ منطقي ولا يمكن تفهّمه، بحسب ما تذكر Mind. فيما إذا تعرّض أحدهم للتهديد المباشر في الماضي من قريبٍ في العائلة، سيتطور شكّه في أنه معرّضٌ للأذى ويصبح ارتياباً بحدّ ذاته، يؤثر في يومياته وتصرفاته. الأمر نفسه بالنسبة إلى من تلاحقه السلطات القضائية، فيكون مرتاباً ويشعر بأنه مراقَبٌ في كل ثانية من يومه.


 


"الوسواس" من يوميات اللبنانيين
في رصدٍ سريعٍ لآراء اللبنانيين حول مسألة "الوسواس" عندهم، تبيّن لـ"النهار" أنهم ليسوا بعيدين منه ويعيشونه يومياً. الفارق الوحيد هو نوعية الارتياب، بما أن البعض أجاب بأمورٍ شخصية واجتماعية، فيما ذهب البعض لاعتبار "الوسواس" في لبنان جماعياً.
المواطن ميلاد ا. يعترف عبر "النهار" أنه عانى لفترة من جنون الارتياب بما أنه تعرّض للبلطجة عندما كان صغيراً: "كان زملائي في المدرسة وفي الجامعة يسخرون مني، فأصبحتُ حذراً في علاقاتي الاجتماعية وأشعر أن أيّ حديثٍ يدور هو عنّي أنا، ووجدتُ صعوبة في أن أثقَ بأحد". كريم ضومط من ناحيته، يُخبر أنه منذ أن تعرّض منزله للسرقة، "أصبحت مُوَسوساً وأتطلع دورياً إلى الخارج وإلى مسافات بعيدة، حتى إني أشك في أقرب الناس إليّ"، وعند سؤاله إذا ما يرى الأمر اضطراباً نفسياً أو مبالَغة في التفكير السلبي والتشاؤم، يجيب بالنفي، فبالنسبة إليه هو أخذ الاحتياطات ليؤمّن سلامته وسلامة عائلته. وتبرز قباحة جنون الارتياب في حالة السيدة د.ع. التي عانت من تصرفات زوجها، إذ تخبرُ أنه أصبح يشك بها وبإخلاصها له، متّهماً إياها بخيانته، ما يشرح هجرها له اليوم.
استرسلَ لبنانيون آخرون في حديثهم عن ارتيابهم على الصعيد الوطني: "الوضع الأمني صعب جدّاً والبلد على كف عفريت" يقول عبدو زيادة صاحب محل خضار، مشيراً إلى أنه "من الطبيعي أن نشعر بالارتياب يومياً، فأي ساعة ممكن أن تبدأ الفتنة والحرب!". توافقه الرأي الطالبة الجامعية ماري-بيل لطوف وتجيب أن الشيء الوحيد الذي يجعلها ترتاب هو "الوضع في البلد، فنحن نخاف من عودة التفجيرات ومن دخول المجموعات التكفيرية لبنان". ويذهب المواطن كارلوس ط. أبعد من ذلك، إذ يؤكد أنه تقدّم إلى الهجرة ليس فقط للعمل وتحسين المعيشة، بل حتى يتخلّص من التفكير اليومي بالوضع الأمني في لبنان أيضاً.


 


كلمة "وسواس" غير علمية، والعلاج يتطلب عملية تحليلية
يشير الطبيب النفسي في مستشفى أوتيل ديو الدكتور رامي بو خليل لـ"النهار" إلى أنه من الخطأ استعمال كلمة "وسواس": "هي ليست كلمة علمية، إذ إن الوسواس هو اضطراب الوسواس القهري أي الـOCD، أي حين تستحوذ فكرة ملحّة على تفكير الشخص، فيما تسمية الـParanoia علمياً هي جنون الارتياب". ويضيف أنه حتى كلمة Paranoia واسعة الدلالات وليست علمية ومحدّدة، موضحاً أن "جنون الارتياب ينقسم إلى ثلاث حالات مختلفة: الشخصية الارتيابية، الهذيان الارتيابي، والارتياب الفصامي".
الشخصية الارتيابية قد تكون في طبع الشخص، ما يزيد من استعداده للإصابة بجنون الارتياب، يلفت بو خليل، ويشرح أن الاستعداد قد يكون وراثياً ما يؤدي للفصام (Schizophrenia) أو الاضطراب الوهامي (Delusional Disorder)، "فيما عوامل الحياة ونوعية عمل الشخص قد تؤثر، كالعاملين في أجهزة المخابرات مثلاً، إذ شروط عملهم تزيد من شكوكهم، كذلك لطريقة التربية عند الشخص ولجيناته تأثير على احتمال إصابته بالشخصية الارتيابية". أما حالتا الهذيان الارتيابي والارتياب الفصامي، فمعقّدتان أكثر، يؤكد بو خليل: "بما أن الشخص يبدأ بالشك في الآخرين بطريقةٍ مرَضية في الحالة الأولى، ويواجه مشكلات على صعيد تنظيم الأفكار في الحالة الثانية ويبدأ بالهذيان (Delusion) ما يشير للفصام في حياته اليومية".
لبنانياً، يعيد بو خليل تحذيره عبر "النهار" من استعمال كلمة "وسواس"، ويقول إن "توصيف المجتمع أو الوطن أنه "موَسوس" ليس توصيفاً علمياً، ولا يكون مبنياً على وقائع حسية، خصوصاً أن المجتمع مقسوم"، وفيما لا ينفي أن هناك فئات تتشارك الهواجس والمخاوف نفسها، يؤكد أن "الارتياب الجماعي" ليس مصطلحاً علمياً، "خصوصاً أن القائد المرتاب يعكس ارتيابه هذا على جمهوره، فيصبح هذا الأخير متأثّراً به، ما يسبب ارتياباً مشتركاً في المجموعة".
ولمعالجة جنون الارتياب، يدعو للتطلع إلى حالة الشخص، موضحاً أن الحل للشخصية الارتيابية لا يتطلب دواءً إذ يستفيد الشخص من العلاج النفسي كالعلاج السلوكي المعرفي، ويؤكد بو خليل أنه ينصح بالعلاج عبر "إعادة الشخص لأسباب هذا الخوف، والعودة إلى مرحلة الطفولة مثلاً، أي إن العلاج الأفضل هنا يكمن في عمليةٍ تحليلية، شرط ألا يبدو المعالِج في موقع المضطهِد"، ويوضح أن العلاج للحالتَين الأخريَين يتطلب دواءً وعلاجاً نفسياً على السواء، مستبعداً فعالية العلاج عبر التّأمل (Meditation): "فهذا النوع من العلاج لا يتناسب مع حالة جنون الارتياب، بل يكون فعّالاً لحالات هبوط المزاج والإرهاق والمعاناة من صدمات معينة" على حدّ قوله.


 


[email protected] / Twitter: @claudatanios

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم