الثلاثاء - 23 نيسان 2024

إعلان

ليلة أفاق محمد ورفاقه و"خرجوا من القبر" في رحلة إلى "الكينونية" \r\n"بيرشن" ضربت وضربت.. وفي القمة انسكب الإلهام "وندور للمزيد"

هالة حمصي
هالة حمصي
A+ A-

"كُنْ"... أَمَرت "بيرشن"، بضربة بيدها على "الكودوم"، طبلتها. وكان! رائع. "كأمرأة تلد، تعطي الحياة"، جلست على مقربة من "السماع"، بــ"سكة" الصوفيين على الرأس، تضرب وتضرب، تقود بعناية الدوران بضربات ايقاع من الحشا. امرأة وحيدة، في جلسة "سماع" مولوية، تكريما لله. قبل ان ينتصف الليل، عاد محمد، ومعه رفاق، من رحلة قادته الى "الكينونية". ما سكنه هناك "شعور بالسكينة الممزوجة بالفرح. شعور بالشغف"، يقول لـ"النهار".


ما حصل في تلك الليلة (■) هو ان محمداً ورفاقه الدراويش الاربعة الاتراك كانوا نائمين، "مائتين في نومنا"، قال. نحو العاشرة الا ربعا ليلا، افاقوا جميعا عندما بدأ السماع، "خرجنا من قبرنا، واتينا الى العالم الحقيقي، بحثا عن الله". انحناءة رجل واحد، سجود رجل واحد، وقوف رجل واحد للحياة، ودوران لامتناهٍ في ارتقاء أخاذ. كل شيء يكتسب معناه، حتى اصغر تفصيل: العباءة السوداء ترمز الى "القبر". تحتها رداء ابيض فضفاض، هو "الكفن". وعلى الرأس قلنسوة طويلة بنية من اللّبد "شاهدة القبر". انهم اتباع "مولانا جلال الدين الرومي" (1207-1273)، "الدراويش الدّوارون". وقد جاؤوا من اسطنبول، في اول زيارة للبنان.
"المديح النبوي" اولاً، وقبل اي شيء: "انت حبيب الله، ورسول الخالق الاحد..."، يصدح صوت المطرب. ضربة أَمْر: "كًنْ"، من الاستاذة بيرشن تشاكموت، ثم يجيش ناي حسين اوزكوليتش متوجعا. عند المولويين، يمثل الناي "بعث الروح في الكائنات". وبالنسبة الى معلّمهم الرومي، "صوت الناي هذا نار لا هواء، فلا كان من لم تضطرم في قلبه مثل هذه النار".
عند الاضطرام، يبدأ "الدوران ولد"، ببطء، عكس عقارب الساعة، للدلالة الى التحرر من الزمن لولادة جديدة. دورات ثلاث حول سجادة حمراء تمثل "اسمى مقام معنوي"، ولكل منها معنى: "الاولى تعبّر عن خلق الله الشمس والقمر والنجوم وكل الكائنات غير الحية. الثانية عن خلق النباتات، والثالثة عن خلق الحيوانات". وبانتهائها، ينتزع الدراويش العباءات السود، كأنهم تخلوا بهذه الحركة عن الحياة المادية.
وكان دوران. وما بعده دوران، "تبشيرا" بـ"مولد الانسانية". كأن به "تطير" الاثواب البيضاء الفضفاضة بـ"الدوارين". في التقنية، يرتكز الدوران على القدم اليسرى، كدعامة يدور حولها الجسم، وترمز الى "الثبات في الحق". اما اليمنى فالمحرك الدافع، رمزا "للاستغراق في معرفة الذات". الرأس ينحني قليلا الى اليمين، ليلتقي مع "خط القلب". اليد اليمنى تنفتح الى الاعلى، واليسرى تنخفض الى الاسفل. "ما نقطفه بيدنا اليمنى من نعم الله ننثره على الناس باليسرى"، يقول الدرويش محمد اويغون. وكان نثر نحو ساعة، والتناغم بالملليمتر. ولا ابهى.
للناظرين، يدور الدراويش حول انفسهم، وفي الوقت عينه دائريا. "تدل هاتان الحركتان الى حركة الكواكب حول محاورها، وحركتها حول الشمس". في السماع، يصبح كل درويش "النقطة والدائرة، محور العالم. وعبره تلتقي الأرض بالسماء". بتعابير اخرى، تصبح رقصته "بابا ما بين الارض والكون كله"... وخلالها "انتقل الى بعد آخر"، يقول محمد. لا يعود يشعر بمن حوله، لا بل "لا اعود اشعر بانني ادور حول نفسي، بل بانني امشي".
الموسيقى تشتعل مع ايقاع بيرشن وناي حسين والقانون والعود. 4 سلامات تتعاقب، وكل منها تحمل الدراويش الى بعد اعلى. الاول "مشاهدة العوالم، حيث يتم فهم عظمة الحق وعلوه". الثاني "يذيب كل الوجود داخل هذه الوحدانية الالهية". في الثالث، "يظهر العشاق انفسهم ليبلغوا مرحلة الكينونية". وخلاله، يتسارع الدوران، ويبلغ محمد والرفاق "القمة... وهنا نبدأ نفتش عن الله"، يقول. وفي الرابع، "يتم الوصول الى الفناء، ضمن الوجود". "خلاله نجد الله. وعندئذ نشعر بالسكينة والطهارة". العيون لا تلحظ شيئا من كل هذا، سوى دوران متواصل، دقيق، ممتع، وجوه مسكونة بعشق غريب، اجساد طيعة، لينة، متناغمة الى اقصى حدود. وتبقى الشرارات في القلب تؤججها لفظة الجلالة. "الله، الله"، الله...". وتتكرر: عشرة، مئة، 500، الف مرة في تعداد لمحمد. هكذا عند كل سماع. وما يتلقاه من العلى، يصفه بانه "مشاعر مختلفة، كالالهام. عندما نغوص اكثر في السماع، ارتقي اكثر، ويأتي الالهام".
تعجز الكلمات عن التعبير عما يكون عليه الامر حقيقة. "يجب عيشه لفهمه". غير انه تبقى، كل مرة، رغبة حارقة "في استعادة مذاق ذلك الشعور، الشعور بالقمة، مجددا ومجددا. وقد يكون شعور آخر في الانتطار"، يؤكد محمد.
من اعوام يدور محمد، بينما يزكي حسين النار بنايه، على غرار موسيقيي "التكية". ليس درويشا، غير انه يشعر كصوفي. "احيانا، عندما اكون في تركيز كبير، اشعر بان طاقة تحيط بجسمي، كأنني ارتقي، واعزف بطريقة مختلفة. ولكن هذا لا يحصل كل مرة. وعندما يحصل، يكون شعور بنشوة. احيانا، نكون نعزف على مسافة 20 مترا من الدراويش، لكننا نتصرف مثل بعضنا البعض. الموسيقى ترتفع، وتؤثر بهم. نشعر بذلك، ونستمتع".
وماذا عن بيرشن؟ امرأة تعزف لصوفيين؟ "ولمَ لا؟ ما المانع؟"، يتساءل محمد وحسين. "جنس الشخص ليس مهما، لاننا كلنا في الكفن، ونمثل الروح". ولكن لبيرشن حدوداً تقف عند مشارف الحلقة. ومشاركة الدراويش في الرقص ليس مسموحا لها او لغيرها، وفقا للتقليد.
وراء كل رحلة تفتيش عن الله، وعد برحلة جديدة. وفي الساعات الفاصلة، "علينا ان نعيش القيم الاخلاقية في حياتنا اليومية. علينا القيام بامور جيدة كدراويش"، يقول محمد. في المعنى، الدرويش هو الزاهد. وفي الهدف، "نسعى الى ان نخدم الناس من اجل عالم افضل. علينا ان ندرك السلبيات في داخلنا، ونحاول ان نسير على خطى النبي. نريد عالما من التسامح والقيم الجيدة. المشكلة حاليا هي قلة التسامح والجهل".


(■) استضافت شركة "آكيليا" الدراويش الدائرين من إسطنبول في امسيتين في تموز 2014 في فندق "موفنبيك" - بيروت.


[email protected]

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم