السبت - 20 نيسان 2024

إعلان

سياحة في جريدة "السائح" لعبد المسيح حداد

جان داية
A+ A-

حين أصدر عبد المسيح حداد جريدته "السائح" في نيويورك في 22 نيسان 1912، كان عدد غير قليل من الأدباء قد سبقه إلى اصدار الدوريات في عاصمة ناطحات السحاب التي يحلو لميخائيل نعيمة تسميتها بـ"الدردور الرهيب". الأخوان ابرهيم ونجيب عربيلي أصدرا باكورة الدوريات "كوكب أميركا" في 15 نيسان 1892. نعوم مكرزل أصدر "العصر" في 1894 ثم "الهدى" في 22 شباط 1898. وكان يوسف نعمان المعلوف أصدر في 3 تموز 1897 "الايام". وشبل دموس – النائب – أصدر "الاصلاح" في 1989. ونجيب موسى دياب أصدر "مرآة الغرب" في 19 أيلول 1899. وأصدر سليم سركيس في العالم الجديد جريدة "الراوي" في 27 ايلول 1902 بعدما حُكم عليه وعلى جريدته "المشير" بالاعدام في العالم القديم (مصر). وصدرت "المهاجر" لأمين الغريب في 25 تموز 1903. واستأنف فرح أنطون إصدار مجلته المتمصّرة، "الجامعة"، ولكن كجريدة يومية في 2 كانون الثاني 1907.


اللائحة تطول. وفي حين احتجبت معظم الدوريات عن الميدان النيويوركي، فقد تمثل جديدان بثلاث دوريات: "الهدى" و"مرآة الغرب" و"السائح". واذا كان لكل من نعوم مكرزل ونجيب دياب ميزة أو أكثر ساعدته في الاستمرار بإصدار دوريته لأكثر من نصف قرن، وقد ساعدت الأول مارونيته السياسية التي استقطبت معظم موارنة الجالية اللبنانيين وعددهم كثير، وساعدت الثاني، وهو لبناني، أرثوذكسيته التي استقطبت بدورها معظم الجالية الأرثوذكس. صحيح أن الحمصي عبد المسيح حداد أرثوذكسي، والجالية الحمصية الأرثوذكسية كثيرة العدد، لكن شطارة الفارس الثالث الصحافية جعلت سائحه ينافس "هدى" مكرزل و"مرآة" دياب. فحين تأسست "الرابطة القلمية" لم يكتف حداد بالانتساب الى "الرابطة" كما فعل نجيب دياب، لكنه كرّس جريدته منبراً لها ولساناً لحالها. واستقطب أبرز أديبين في الجالية أمين الريحاني وجبران، وحافظ على استقطابهما كمحررين متبرعين، في حين غاب الريحاني عن "الهدى" بعد تبرعه بمعظم بواكيره لها، ومنها "كشكول الخواطر"، وغاب جبران عن "مرآة الغرب" بعد مغادرته "المهاجر" وانتسابه لهيئة تحريرها منذ عودته من باريس في أواخر 1910. أما إصداره "السائح" السنوي "الممتاز" فقد تميز به عن سائر الذين أصدروا أعدادا ممتازة في نهاية كل عام بناحيتين: مواظبته على إصداره بانتظام طوال سنوات، وتميزه عن سائر أعداد الجريدة بإخراج غلافه الجميل ومضمون مواضيعه التجديدية التي ساهم في كتابتها عدد كبير من الأدباء والأديبات، في طليعتهم جبران والريحاني ونعيمه ونسيب عريضة.
لنأخذ عدد "السائح" الممتاز لعام 1921 نموذجاً. فإذا كان لكل مطبوعة موضوع غلاف، فقد شذّت غلف "السائح" الممتاز على القاعدة، على رغم أن كل عدد منها يحتوي على أكثر من موضوع يستدعي التنويه به على صفحة الغلاف. فهل يعود سرّ ذلك الى أن جبران كان، في كل عدد، مصمّم الغلاف ومحرره الأول؟ نعم ولا. فلو كان غير جبران مصمماً لغلاف هذا العدد، لنوّه بمقال "إرم ذات العماد" الذي احتل الصفحات الأربع الاولى، والذي أعيد نشره في كتاب "البدائع والطرائف". يبرر التنويه أمران: قيمة المقال وشهرة كاتبه. أما وأن جبران هو المخرج والمصمم، فقد تميز الغلاف عن الغلف الكلاسيكية، ليس فقط بتغييب أي تنويه بما تعورف على تسميته بموضوع الغلاف، لأنه موضوع رئيسي قائم بذاته مع فارق أنه "كُتب" بريشة الفنان وليس بقلم الأديب. وكما سائر الغلف، احتلت لوحة جبرانية، القسم الأعلى والأكبر من الغلاف، تضمنت صورة "السائح الاعظم" أي الله. واحتل القسم الباقي اسم الجريدة وقد كُتب بخط فني مبتكر.
لنبقَ مع جبران الذي طغى حضوره في هذا العدد على سائر المحررين المتبرعين. يلفت في مسرحية "ارم ذات العماد" مكان المسرحية وزمانها. أما المكان فيحدده جبران بالعبارة الآتية: "غابة صغيرة من الجوز والحور والرمان تحيط بمنزل قديم منفرد بين منبع العاصي وقرية الهرمل في الشمال الشرقي من لبنان". أما الزمان فهو "عصارى يوم من أيام تموز في سنة 1883". واذا كان الزمان هو تاريخ ميلاد جبران، فالمكان أي الهرمل هو وطن جبران الصغير الأول الذي أكّده لي مهدي عاصي أحد المثقفين الهرمليين، أو "الوطن الثاني" حيث أمضى جبران طفولته بمعية والده على حد تأكيد العديد من كاتبي سيرته وقد عززوا معلومتهم بزجلية نسبوها الى مؤلف "النبي". يبلغ مفعول الزمان والمكان ذروته حين يضيف القارئ اليهما أحد أبطال المسرحية نجيب رحمة "الأديب اللبناني" الذي يسأله بطل المسرحية الآخر زين العابدين "أنت مسيحي أليس كذلك"، فيجيبه ابن كاملة رحمه "نعم ولدت مسيحياً غير أنني أعلم اذا جرّدنا الأديان مما تعلق بها من الزوائد المذهبية والاجتماعية وجدناها ديناً واحداً". المفهوم الديني هذا يلخص عقيدة جبران الدينية التي آمن بها أمين الريحاني وعدد غير قليل من رواد النهضة في بلاد الشام. لم يقتصر حضور جبران على الغلاف والمسرحية أو الرواية التي تتمحور على ثلاثة أشخاص منهم "آمنة العلوية". فقد نشر في الصفحة 24 بعض شذراته أو اقواله المأثورة حيث يقول "أنا كولمبس نفسي، وفي كل يوم أكتشف قارة جديدة فيها". ولوحتين من ريشته، إحداهما توّج بها قصيدة "لو تدرك الأشواك سر الزهور" لميخائيل نعيمه الذي قال في قصيدته التي احتلت صفحة كاملة: من "السائح الممتاز":
يا زهرة ما بين شوك نمت
لولا شذاها ضلّ عنها البصر
هل تدرك الأشواك يا زهرتي
أن الشذا هذا شذاك انتشر
كعادته، لم يكتفِ نعيمه، وهو الناثر في الدرجة الأولى، بالمساهمة الشعرية. فقد بعث بكتاب مفتوح الى رفيق السلاح "الجندي المجهول" لمناسبة الاحتفال الذي أقيم له في لندن وباريس. قال نعيمه الذي انخرط في الجيش الأميركي خلال الحرب: "بالله من أنت أيها الجندي؟ ها قد مشت خلفك الملوك وأبناء الملوك وحاشيات الملوك، من سيد وأمير ووزير خطير وقائد كبير... وتحفّ بنعشك ألوف فوق ألوف من أبناء أمتك ومن بنات أمتك. بين تلك الألوف وجوه سوّدها الحزن، ووجوه شحبها الملل، ووجوه بيّضها البطر... وفي صدور تلك الألوف ألوف من القلوب. بعضها يودّ لو كان نعشاً لك. وبعضها يشكر الله لأنك أنت في النعش لا هو، وبين تلك القلوب، قلب لو عاد قلبك نابضاً، لعرفه من بين القلوب – هو القلب الذي سكنت في ظله تسعة شهور، فكان ينبوعاً يغذّيك بدم الحياة، وترساً يصونك من الموت، وقيثارة تنبّه روحك من غيبوبة الموت الى يقظة الحياة". ووصلت صراحته وقساوته العادلة الذروة حين خاطب المسؤولين المحتفلين: "ها قد مرّ عامان وأنتم أسياد العالم – لا عدو لكم فيه ولا مزاحم. فماذا فعلتم بالعالم؟ أأعطيتم المظلوم حقه ورددتم الى العبد حريته وأنصفتم الضعيف وبلسمتم جروح البائس؟ لا وربّي. وما الفرق بينكم وبين عدوكم إلا أنه كان يطمح الى شيء تطمحون وراءه أنتم؟ فدعاكم الى البراز فكنتم الظافرين. وكانت لكم حصة الظافرين. وحصة الظافرين شعوب كثيرة وأراض فسيحة وموانئ جميلة وتجارة رائجة".
بقدر ما كان نعيمه عادلاً في كلامه عن الدول المنتصرة في الحرب العالمية الأولى، فقد مزج الظلم بالعدل عندما تكلم عن زملائه في "الرابطة القلمية"، ومنهم وديع باحوط حيث قال عنه في "سبعونه" ص 452: "من كفرمتى، خفيف الظل والروح. لم يكتب من بعد انضمامه الى الرابطة إلا مقالاً واحداً بعنوان: البرغشة". والحقيقة ان وديع باحوط نشر عشرات المقالات في "السائح" وغيرها قبل انتسابه الى "الرابطة"، ناهيك بأن "البرغشة" التي نشرها في "السائح" الممتاز الذي نحن في صدده، كانت حلقة في سلسلة. وإذا أعدنا قراءة حوار باحوط مع البرغشة أو بالأحرى محاورة البرغشتين، تأكدت لنا ليس فقط خفّة روح الكاتب، بل أيضاً سعة ثقافته وعمق تفكيره. يقول الكاتب الساخر: "ما أسهل حصول المرء على رغائبه في الحلم. فإني ما كدت أتمنى ما تمنيت حتى رأيت نفسي برغشة لا غش فيها. ولما رأتني زائرتي كذلك طنطنت موالاً خازبازياً. ومالت إليّ بعاطفة وحدة الجنس ولذعتني لذعة تسليم وترحيب تدعى بلغتها "وزوز" الذي تفسيره بلغة الانسان العربية "قبلة" فرددت لها السلام بأحسن منه ولبثنا برهة نتبادل فيها طنين التعارف ونتوزوز". وتعليقاً على شعار "حق الشعوب في تقرير مصيرها" الذي أطلقه الرئيس الاميركي وودرو ولسن، وبقي حبراً على ورق، قالت البرغشة: "يتحفز الانسان لاكتساح السماء. ولِم ذلك؟ أليس لأن الأرض تكاد تضيق بحاجاته؟ فقد باشر ركوب الهواء واضعاً نصب عينيه التدخل في شؤون الكواكب وضمّها الى أملاكه. ولا أدري كيف يجيز لنفسه ذلك بعد أن صرّح زعماؤه بعضهم لبعض باستقلال الشخصيات والأمم، وترك كل شعب ليعيش ويجري في أحكامه حسب اختياره. وكم مرة سمعتهم ينادون كل بلاد لأهلها. يقولون ذلك وهم يعلمون أنهم كَذَبة مخادعون غشاشون". ورداً على سؤال، أكدت البرغشة أن "ذكورنا لا نفع منهم يرجى، نحمّسهم فلا ينهضون ونناديهم فلا يجيبون".
لم يحتكر وديع باحوط السخرية في "السائح الممتاز". ذلك أن توفيق حلال كان الساخر الآخر عبر مقال "مكتوب جارتي" الذي امتد على كامل الصفحة 15. ولعل الفارق بين الأديبين أن الأول تخيّل نفسه برغشة ليحاور برغشة، في حين نقل الثاني حواراً واقعياً أجراه مع تاجرة بالمفرّق من الجالية السورية استعانت به ليحرر لها مكتوباً لتاجر الجملة. وبالطبع، لا يتم الطلب بصورة مباشرة، وانما بعد مقدمة تملأها أم حنا بهذا النوع من الأسئلة: كيف صحتك؟ كيف صار فيك؟ كيف شغلك؟ كيف حال من عندك؟ كيف بنت عمك؟ انشاء الله مبسوط؟ وعندما تفرغ من أسئلتها التي تطرحها عليه كل يوم، يخطّ لها رسالة العمل الآتية الى تاجر الجملة وهو أيضاً من الجالية السورية: "حضرة الأخ الخواجة فاضل راس: بعد السلام، أعرض: أتأسف أن أخبركم بأنه ليس كما طلبت منكم. فقد أرسلتم سكارفات قياس 38 بدل 36، وكذلك الكلسات طلبتها نسوانية فأرسلتموها رجالية. لذلك مرجعة لكم اياها صحبة الاكسبرس وأتأمل أن لا يحدث مثل هذا الغلط في المستقبل، وسلفاً أشكركم. الداعية أم حنا الأحمر". أضاف توفيق حلال الذي نشر الكثير من نتاجه في "السائح": "ولم أنته من تلاوته حتى حملقت فيّ وشرر الغضب يتطاير من عينيها وصاحت بصوت أعلى من العادة (وعادة تتكلم كأن من تحادثه أطرش): قرد، هيك بيكتبوا مكاتيب؟ لا ديباجة ولا سلام ولا كلام؟". وبعدما مزّقت المكتوب المختصر المباشر، أملت عليه البديل: "حضرة الأجل الماجد حميد المزايا كريم الشيم الخواجه فاضل الراس المحترم أطال الله تعالى بقاه. عن بعد بعيد وشوق ما عليه مزيد أهديكم أشواقي القلبية سائلة الله تعالى أن تكونوا حائزين على تمام الصحة والعافية التي أرجو دوامها لكم. وإن تكرمتم بالسؤال عني فإني لله الحمد ساعة تاريخه على غاية ما يرام وما خايس عليّ سوى قلة مشاهدتكم ربنا يريني وجهكم عن قريب بجاه الطاهرة أم الحبيب والأمل أن تواصلوني بتحاريركم لأكون مطمئنة عنكم لأنه كما تعلمون المكاتبة نصف المشاهدة". وبعد أملت الشكوى بالتفاصيل المعهودة، ذيّلت الرسالة بتوقيعها الكامل: أم حنا أرملة المرحوم أبو حنا الأحمر. وأخيرا ودّعته بعدما وعدته بأنها ستحضر "شي ليلة" لكتابة رسائل عدة. وختم بالجدية التي تعتبر أعلى درجات السخرية: "حالما أغلقت الباب وراءه، عمدت إلى حوائجي فجمعتها، وثاني يوم صباحاً كنت أفتش على غرفة بثاني طرف من أطراف المدينة".
لنقلب الصفحة على مقال غير ساخر، بل مغرق في الرصانة، لأحد أعضاء "الرابطة القلمية" الفرنكوفوني الطرابلسي وليم كاتسفليس ذي الأصل اليوناني. توّج الكاتب مقاله الطويل بالعنوان الغريب "البترون في سنة 2520". وحيث ان المدينة الشمالية المجاورة لطرابلس كانت تشهد في أيار 2520 مهرجاناً ثقافياً يشارك فيه زوار من مصر وفلسطين ودمشق وفلسطين والعراق وحلب وحماه وطرابلس طبعاً، فقد ألقى محمد جمال العلم الزهاوي محاضرة استهلها بنقد نظرائه في الجيل العشرين الذين "كانوا يخصصون ثلث كلامهم لإطراء الحضور بالمبالغة السخيفة وإطراء أنفسهم بذكر عجزهم وقصرهم وهو أسلوب مبتذل لإلفات الأنظار إلى مقدرتهم، والثلث الثاني لحشو الكلام الرنان المصفوف صفاً، المركّب تركيباً، مبنى دون معنى".
وقلب الخطيب الصفحة على ناحية دينية خطيرة ربما كان وليم وجبران والريحاني وسائر فرسان "الرابطة القلمية" يشاركون الخطيب بما قاله عنها ومحاولة اقناع الآخرين بصحتها، أو إذا تسنى لهم إجبار من كان على غير عقيدتهم اعتناقها". وختم الخطيب استشرافه لما ستؤول اليه حال البترون وطرابلس وعموم بلاد الشام والعالم العربي من سعادة ورفاهية "بفضل الإخاء العمومي وتوحيد الشرائع في الأرض مع توحيد العملة وتحديد مفعولها ومنع الاحتكار وقتل رذيلة الطمع في نفوس البشر مما أبطل الشحناء والحروب. ولولا ذلك لكنا اليوم متأخرين متوحشين هائمين في همجيتنا كما كان الناس في الجيل العشرين". وإذا قيل لوليم ان البترون وطرابلس وعموم مدن العالم الثالث لا تزال غير موحدة الشرائع والعمل، فيما الاحتكار والرذيلة والحروب ضاربة أطنابها، وذلك بعد 93 سنة من نشر "محاضرته"، يجيب أنه لم يقل إن جحيم البترون وعموم الكرة الارضية سيتحول الى نعيم في العام 2014، بل في العام 2520. ولكن بماذا يجيب إذا قيل له بأن الأحوال في العام 2014 هي أسوأ مما كانت عليه في العام 1921، وليس في الوقت الحاضر من مقدمات – لن أقول إرهاصات ولو عُلٍّقت مشنقتي- تبشّر بالنعيم، لا في 2520 ولا في 5220؟
على ذكر البترون، هل يجوز أن نعيد قراءة "السائح الممتاز" للعام 1921 من دون ذكر أحد أدبائها المهاجرين أمين مشرق الذي كان له قرص في عرس "السائح الممتاز" والعادي، وخصوصاً أنه أحد مؤسسي "الرابطة القلمية" وقد ساهم بمقال احتل صفحتين وربع الصفحة في "السائح الممتار" عنوانه "حكينا". ولكن المقطع المخصص له في هذه العجالة لن يتضمن خلاصة لمقالة أو عبارات مستقاة منه، ليس لأن المقال غير جيد، بل لأن مقاله عن "الرابطة القلمية" في "السائح" تاريخ 29 حزيران 1916، يستدعي العودة إليه، وخصوصاً أن "السائح الممتاز" للعام 1921، احتضن صفحة كاملة عن "الرابطة" وأهدافها، يفترض أن نعيمه كاتبها وقد زينت برسم يتضمن عشرة من فرسانها ليس بينهم مشرق. صحيح أن الأخير كان منتقلاً من نيويورك إلى إحدى مدن أميركا اللاتينية، لكنه بقي عضواً في "الرابطة"، واسمه احتل رأس لائحة أعضائها المراسلين. والسؤال الآن: هل كتب مشرق عن "الرابطة" مقالاً استشرافياً قبل تأسيسها بخمس سنين، أسوة بمقال كاتسفليس الاستشرافي عن البترون؟ إذا قرأت ما نشره نعيمه عن "الرابطة" في مذكراته "سبعون"، يمكنك الاستنتاج أن منهج مشرق استشرافي ويصيب الهدف أيضاً. ولكن إذا عدت إلى مقالة "الرابطة القلمية" الذي نشره في العام 1916، فلا بد لك من أن تعيد النظر بما كتبه كل الذين أرّخوا لـ"الرابطة" وأكدوا انها تأسست في العام 1920، وفي طليعتهم ناسك الشخروب. فأمين مشرق كتب عن أهداف "الرابطة" التي تأسست في ربيع 1916، وضمّن "البلاغ" رقم 1 ما عاد وكتبه نعيمه عنها في "البلاغ" رقم 2 عندما استأنفت نشاطها بعد توقفها بفعل الحرب. صحيح أن مؤلّف "الغربال" أوحى بأن بلاغه يحمل الرقم 1، لكن الوحي سرعان ما يتبخر، حيث يجد الباحث عشرات المقالات في "السائح" و"الفنون" و"مرآة الغرب" موقّعة بأسماء جبران وسائر أعضاء "الرابطة"، ناهيك بأن الفارق بين مضمون بيانم شرق وبيان نعيمه، متشابه حتى في الشكل. لعل أغرب وأطرف ما تضمّنه كلام نعيمة عن "الرابطة"، قوله إن الريحاني لم يكن مؤسساً لها، أو عضواً فيها، بسبب خلافه العميق مع عميدها جبران. تكمن الطرافة والغرابة في أن الريحاني كان من مؤسسي "الرابطة" في العام 1916 بدليل مقاله "بلادي" المنشور في "السائح" بتاريخ 25 أيار 1916، والمتوّج بعبارة "عضو في الرابطة القلمية"، في حين لم يكن لنعيمه أي دور في تأسيس "الرابطة" أو في الانتساب اليها، وهو أصبح عضواً ومسؤولاً في هيئتها الإدارية عندما استأنفت نشاطها في العام 1920. أما الريحاني فيعود سر غيابه عند استئناف عملها، إلى قراره العودة إلى الفريكة وافتتاحه ورشة كتبه عن "ملوك العرب".
على ذكر الريحاني والكلام عن حضور جبران ونعيمة وكاتسفليس وغيرهم في "السائح الممتاز"، فلا بد من القول إن الغائب الأكبر كان صاحب "كشكول الخواطر" الذي ساهم في كل "سائح ممتاز" منذ أول عدد حتى العام 1920.
حتى الآن، كان كل الذين نوّهنا بهم في "السائح الممتاز" من الجنس العنيف. فماذا عن الجنس اللطيف؟ في الصفحة 21، نُشر مقال للسيدة ماري عيسى الخوري عنوانه "حلم في يقظة" استهلته بدعوة من "يحلمون بحرية الفضاء الواسع" لتقص عليهم حلماً في اليقظة "سداه الخيال النسائي ولحمته تطلب الوقائع الغريبة". ولما كان المقال أدنى مستوى بكثير مما نشرته الكاتبة في جريدتي "الهدى" لنعوم مكرزل و"الأيام" ليوسف نعمان المعلوف قبل 21 سنة، فقد رأيت أن أختم بالاضاءة على اسمها الحقيقي وشيء من سيرتها ودورها العملي في ورشة "السائح" الممتاز. كانت الزحلاوية ماري عزيز طالبة متفوقة في جامعة واشنطن ورئيسة لتحرير المجلة المدرسية المكتوبة باللغة الانكليزية، وفي العام 1901 تزوجت من الأديب البحمدوني عيسى الخوري الذي اشترك مع جميل معلوف والمير يوسف شديد أبي اللمع وشبل دموس في تأسيس جمعية "سورية الفتاة" الاستقلالية الثورية، واصدر مجلة فكرية أدبية باسم "الدائرة". لكن القدر أو بالأحرى المرض أودى بحياة الأديب الشاب اللامع بعد سنوات قليلة من زواجه. فأمضت الأرملة الصبية الثرية بقية حياتها، تدير محلاً لبيع القطع الأثرية في أرقى شوارع نيويورك، وتستضيف في منزلها النيويوركي كل فنان أو أديب من الجالية وبخاصة أعضاء "الرابطة القلمية".
وأكد لي السفير ادوار غرة الذي عرفها في الخمسينات أنها كانت تساعد الفنانين والأدباء بسخاء ومنهم، وربما في طليعتهم عبد المسيح حداد. ويعزز هذه المعلومة ما ذكره حداد في افتتاحية عدد "السائح الممتاز" حيث قال: "في كل عام أخرج من معمعة العدد الممتاز قائلاً في نفسي: إذا أطال الله بعمري سنة فلن أدخل نفسي معمعة أخرى. ولقد كنت في أواخر العام الماضي (1920) مصمماً على ان لا أدخل المعمعة المذكورة في هذا العام، ولم أدر في لحظة واحدة كيف أني نسيت ذلك التصميم على اثر رن جرس التلفزن قربي ذات يوم فتناولت سماعته، واذا بالسيدة ماري عيسى الخوري تسألني عن اهتمامي بالعدد الممتاز لعام 1921 وتعرض عليّ تطوعها للعمل فيه، فانتعش ميت الهمم في نفسي للحال. وهكذا، إذا شاهد القارئ في هذا العدد امتيازاً عن أسلافه من الأعداد الممتازة يدرك محاسن ذلك الصوت العذب الذي خاطبني على التلفون وكانت صاحبته عوناً كبيراً على ترتيب هذا العدد وجلب مواده والتفنن به". من المرجح، وكدت أقول المؤكّد، أن جبران قد ذكّر ماري بـ"السائح الممتاز" العتيد الذي كان مخرجه ومحرره الأول. أولم تكن صاحبتنا صديقة جبران الثالثة التي تحمل اسم ماري، إلى جانب ماري هاسكل وماري زيادة؟

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم