الجمعة - 19 نيسان 2024

إعلان

الموصل أمّ الربيعَين

محمود الزيباوي
A+ A-

تقع مدينة الموصل شمال العراق، وهي مركز محافظة نينوى والمدينة الثانية في البلاد من حيث عدد السكان بعد بغداد. اشتهرت بمناخها اللطيف في الربيع والخريف، ولُقّبت لذلك بـ"أمّ الربيعين"، كما عُرفت بـ"الحدباء"، وذلك لإحتداب نهر دجلة الذي يخترقها، واحتداب منارة جامعها الكبير المعروف بالجامع النوري. تجمع هذه المدينة العريقة بين الماضي والحاضر، وتبدو اليوم مدينة عصرية تحتفظ بطابعها الأثري القديم في الجزء الأوسط منها. تشارف الموصل أطلال نينوى، عاصمة الأشوريين الكبرى من الشرق القديم، الممتدة على الساحل الأيسر من دجلة، وتحيط بها آثار خور ساباد والنمرود. وتشكل في توسعها امتداداً حديثاً لهذه الإطلال. تشتهر المدينة بالتجارة مع الدول المجاورة، وفي مقدمها سوريا وتركيا، وهي حلقة الوصل بين بلاد الرافدين ومحيطها.


في البدء، كانت الموصل قلعة صغيرة نشأت قديماً على الساحل الأيمن من دجلة، في المكان الذي يُعرف بمحلة القلعة. وقد عُرفت هذه المحلة في السريانية باسم "حصنا عبرايا"، أي الحصن العبوري. توسع هذا الحصن في العصر الإسلامي وباتت الموصل المعبر الذي يمر به كل قاصد. وصفها ياقوت الحموي في "معجم البلدان"، في زمن نهاية الخلافة العباسية، وكتب في تعريفه بها: "المدينة المشهورة العظيمة، إحدى قواعد بلاد الإسلام، قليلة النظير كِبراً وعِظَماً وكثرةَ خلق وسعة رُقعة، فهي محطّ رحال الركبان ومنها يقصد إلى جميع البلدان، فهي باب العراق ومفتاح خراسان ومنها يقصد إلى أذربيجان"، "قالوا وسميت الموصل لأنها وصلت بين الجزيرة والعراق، وقيل وصلت بين دجلة والفرات". ويمكن القول إن صفة "الوصل" هي صفتها على مرّ العصور، وهذا ما يؤكده كل من اهتم بدراسة تاريخها القديم والحديث. سكنتها اقوام عديدة، وشكّلت أرضاً لالتقاء اللغات والمعتقدات، وقد بقي سهلها العظيم على هذه الحال حتى الأمس القريب.
في العصر الإسلامي الذهبي، اشتهرت الموصل بأديرتها، ومنها دير مار ميخائيل الذي لا يزال قائما على نهر دجلة، شمال غرب المدينة. الدير الأعلى الذي بقي منه، كنيسة بديعة تُعرف اليوم بـ"الطهرة التحتانية". ذكر ياقوت الحموي دير مار ميخائيل، وقال إنه "بأعلى الموصل، على ميل منها، مشرف على دجلة، ذو كروم ونزه حسن". كذلك، تحدث شهاب الدين العمري عن هذا الدير في "مسالك الأبصار في ممالك الأمصار"، وقال في وصفه: "دير مار مخايل، على ميل من الموصل، يركب دجلة في بقعة حسناء، يُطِلّ على كروم وشجر، برّيّ بحريّ، سهليّ جبليّ، وبه قَلاَلي كثيرة في غاية الظرف، محفوفة بأنواع الشجر، وأصناف الزهر، وله عيد يكون قبل الشعانين بأسبوع. تخرج إليه النصارى بنسائهم وصبيانهم. ويمرّ لهم فيه يوم وليلة، تتجاوب فيه ألحان الأغاني وقراءة الرهابين". أما الدير الأعلى، فهو بحسب ياقوت الحموي "بالموصل، في أعلاها، على جبل مطل على دجلة، يُضرب به المثل في رقة الهواء وحسن المستشرف، ويقال إنه ليس للنصارى دير مثله لما فيه من أناجيلهم ومتعبداتهم". فيه قال الشاعر أبو عثمان الخالدي:
واستشرفت نفسي إلى مستشرف/ للدير، تاه بحسنه وبطيبه
متفرق آذي دجلة تحته/ بغديره وخليجه وقليبه
فنعمت بين رياضه وغياضه/ وسكرت بين شروقه وغربه
غنى الجمال به فزاد الثغر من/ تفضيضه، والخد من تذهيبه
واهتز غصن البان في زناره/ وأضاء جيد الريم تحت صليبه
صمدت الموصل في وجه الفرنجة، لكنها سقطت في أيدي المغول، وعاشت فترة مظلمة، غير أنها عادت وعمرت، وحافظت على موقعها التاريخي، وبقيت "باب العراق ومفتاح خراسان". في زمن العثمانيين، تحولت ولاية الموصل إلى أرض موبوءة مضطربة، لكنها عاشت فترة ذهبية في حكم الأسرة الجليلية الذي استمر من 1726 إلى 1834، وعائلة عبد الجليل مسيحية الأصل، وقد بقيت طويلاً زعيمة للأريستوقراطية المسلمة في هذه الولاية، وقد حكمتها بصورة شبه مستقلة إلى أن ضُمّت المقاطعة تحت الحكم العثماني المباشر بقرار من السلطان عبد الحميد الثاني في النصف الأول من القرن التاسع عشر.
كما في القرون الوسطى، تميزت الموصل بتعدديتها الثقافية، وقد أدهشت هذه التعددية الرحّالة الذين زاروها وأقاموا فيها خلال فترات عدة. عاش المسيحيون مع المسلمين، وكانت العلاقة متآلفة بين طوائف الجماعتين في كثير من الأحيان، وقد أشار الرحالة الألماني كارستن نيبور إلى هذا الألفة بعد زيارته للولاية في عام 1766، وكتب في يومياته: "حالة النصارى في الموصل أحسن بكثير من حالة النصارى في بقية بلدان الأمبراطورية العثمانية فهم يعيشون سعداء على وئام تام مع المسلمين، ولهم الحق في أن يلبسوا كما يلبس المسلمون، وكثير منهم يعملون في خدمة الباشا". بدوره، شهد الرحالة البريطاني الميجر ايلي بانستر سون لهذا الوفاق عندما زار البلاد في أواخر القرن التاسع عشر، ورأى أن نصارى الموصل يتمتعون بالحرية، "وهم بمنجاة من الاضطهاد"، و"إنهم يردّون هذه المزية والحال المستحبة إلى أنّ المسلمين والنصارى عرب في الإحساس واللغة، وفوق كل شيء هم مرتبطون برابطة التساكن في المدينة، وهي رابطة قوية في الغالب وملمح تراص في مدن الشرق المنعزلة".
حوت الموصل أقواماً عدة، منها العرب والكرد المسلمون، وضمت طوائف مسيحية عديدة، كما أنها ضمّت اليهود الناطقين بالآرامية، والأزيديين، والشبك، والمندائيين. لكل طائفة من هذه الطوائف تاريخ خاص، غامض ومثير. أثارت المدينة مشاعر عدة في نفوس من زارها من الرحّالة، وتعددت الآراء في وصفها، فمنهم من وصفها بـ"مدينة الطين"، ومنهم من شبّهها بمدن جنوب إيطاليا. جمعت المدينة القديمة بين الماضي والحاضر كما تشهد بعض المواقع الأثرية، مثل جامع النبي يونس المبني فوق موقع قصر أسرحدون. هذا الجامع هو في الأصل كنيسة سريانية قديمة ضمّت ضريح البطريرك النسطوري يوحنا الأعرج. في مطلع القرن العشرين، زار المبشر الانكليزي وليم ويكرام هذا المقام، وأشار إلى هذا التحوّل، وقال إن سمعة البطريرك البارزة كانت سبباً "في تحويره بعد الممات إلى نبيّ يقدسه اليهود والنصارى والمسلمون".
الحديث عن ضريح البطريرك السرياني الذي تحول إلى ضريح النبي يونس، يقودنا إلى الحديث عن مسجد آخر من مساجد الموصل الشهيرة يحمل اسم النبي جرجيس. تبدو هذه التسمية غريبة للوهلة الأولى، ذلك أننا لا نجد في القرآن الكريم أيّ ذكر لهذا النبي. إلا أن العودة إلى الميراث الإسلامي تظهر في شكل جليّ أن إكرام جرجيس ليس تقليداً مستحدثاً، فالشواهد الأدبية التي تتحدث عنه عديدة، ومنها ما يعود إلى أكثر من ألف سنة. من عصر إلى عصر، تناقل الرواة سيرة هذا الولي النصراني الذي بُعث من فلسطين إلى ملك الموصل ليدعو إلى عبادة الله ورفض عبادة الأوثان، فاستفاضوا في ذكر الأعاجيب العديدة التي صنعها، وتباروا في عرض أصناف العذاب التي ذاقها في المدينة التي وصلت بين دجلة والفرات قبل أن يحظى بالراحة من بلاء هذه الدنيا مكللاً بفضائل الشهداء.
يرتبط اسم جرجيس باسم مدينة الموصل في سائر الشهادات الإسلامية التي تأتي على ذكر هذا الشهيد. ويُجمع أشهر الرحّالة على الإشارة إلى وجود مقام لجرجيس في المدينة التاريخية العراقية. "في وسط مدينة الموصل قبر جرجيس النبي"، يقول ياقوت الحموي في "معجم البلدان". "بها أبنية حسنة وقصور طيبة على طرف دجلة"، يضيف القزويني في "آثار البلاد وأخبار العباد"، "وفي نفس المدينة مشهد جرجيس النبي، عليه السلام، وفي الجانب الشرقي منها تل التوبة، وهو التل الذي اجتمع عليه قوم يونس لما عاينوا العذاب، وتابوا وآمنوا فكشف الله تعالى عنهم العذاب. وعلى التل مشهد مقصود يقصده الناس كل ليلة جمعة وينذر له النذور". ويشير إبن بطوطة إلى وجود مسجد يقوم على مشهد النبي في مدوّنته الشهيرة حيث يقول: "وبهذه المدينة مشهد جرجيس النبي عليه السلام، وعليه مسجد والقبر في زاوية منه، عن يمين الداخل إليه، وهو فيما بين الجامع الجديد وباب الجسر، وقد حصلت لنا زيارته والصلاة بمسجده والحمد لله تعالى. وهنالك تل يونس عليه السلام وعلى نحو ميل منه العين المنسوبة إليه، يقال انه أمر قومه بالتطهر فيها ثم صعدوا التل ودعا ودعوا فكشف الله عنهم العذاب".
المسجد الذي يشير إليه ابن بطوطة هو على الأرجح مسجد النبي جرجيس الكائن في منطقة سوق الشعارين. يبدو أن إطلاق هذا الاسم على هذا المسجد قد أثار حفيظة بعض السلفيين في الأزمنة الحديثة، وفي مقدمهم الشيخ أحمد بن الكولة. في كتاب يحمل عنوان "الإمام محمد بن عبد الوهاب في الموصل"، يتحدث محمود شيت خطاب عن رفض بعض المتشددين هذه التسمية وإنكارهم نبوة جرجيس. ويبدو أن هذا الإنكار قد أثار موجة عارمة في الموصل، فانبرى أتباع الصوفية الحلبية وأصحاب الطرق ومعهم المريدون للردّ على السلفيين وإثبات نبوة جرجيس، وتصاعد أصداء هذا السجال ووصل إلى والي الموصل الذي ناصر جرجيس وأمر السلفيين بالتوقف عن إنكار نبوته.
تلك هي حال الموصل في الماضي القريب. مدينة عراقية عريقة أغلب سكانها عرب من المسلمين السنّة ينحدرون من قبائل عدة، منها شمر والجبور والدليم وطيء والبقارة. تضم هذه المدينة مسيحيين ينتمون إلى طوائف عدة، إلى أجانب وأقوام أخرى في مقدمهم الأكراد والتركمان. تزيّن المدينة جوامع أثرية ذات قيمة فنية كبيرة، أشهرها قاطبةً الجامع النوري الشهير بمنارته "الحدباء"، جامع الخضر المعروف بالجامع المجاهدي، جامع النبي يونس، جامع النبي جرجيس، ومشهد الإمام يحيى أبي القاسم. تحوي المدينة عدداً كبيراً من الأديرة القديمة التي تم تجديدها في العقود الأخيرة، منها دير مار ميخائيل، دير مار كوركيس، دير مار أوراها، دير الربان هرمزد، دير مار بهنام، ودير مار متى. إلى جانب هذه الأديرة، نقع على كنائس قديمة أعيد تأهيلها في مراحل تاريخية، منها كنيسة مار شعيا، كنيسة الطهرة التي تعود إلى الدير الأعلى، كنيسة الطاهرة القديمة الواقعة في محلة القلعة حيث النواة الأولى للمدينة قبل توسعها، كنيسة مار توما الملاصقة لدار مطرانية السريان الأرثوذكس، كنيسة شمعون الصفا، كنيسة مار حوديني، كنيسة مار كوركيس، وكنيسة مسكنته. تتميز هذه الكنائس بزينتها المعمارية التي تماثل زينة المساجد المعاصرة لها، وتشهد لشراكة فنية إسلامية مسيحية تتخطى بشكل مذهل حدود الملل والنحل.
تغيّرت صورة الموصل بشكل جذري في الآونة الأخيرة. بين ليلة وضحاها، فقدت المدينة تعدديتها وتساقطت آثارها التاريخية بشكل متسارع. تتناقل وسائل الاعلام مشهد تفجير مرقد النبي يونس على يد مسلّحي تنظيم الدولة الإسلامية "داعش"، وتشير مصادر محلية من داخل المدينة إلى إن "مسلحي داعش أخلوا المرقد من جميع ممتلكاته، قبل أن يفجروه بعبوات ناسفة، ما أدى إلى انهياره بالكامل". بحسب الأخبار المتلاحقة، زرع مسلّحو التنظيم عبوات ناسفة في محيط مرقد الإمام أبو العلى في منطقة باب جديد وسط الموصل، وفجروها عن بعد، ما أدى إلى انهيار المرقد بالكامل، فيما اعتمدوا الطريقة ذاتها في تفجير حسينية فاطمة الزهراء ومسجد نجيب جادة في منطقة الفيصيلية. قبلها، أقدم التنظيم على تفجير مقام النبي دانيال، غرب الموصل، كما فجر في اليوم نفسه مرقد الإمام يحيى أبي القاسم، وهو مرقد أثري يقع في حي الشفاء، غرب الموصل. يستمر هذا المسلسل أمام أعين العالم، ومع استمراره تفقد الموصل روحها الأصلية التي صنعت عزها ومجدها.

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم