الخميس - 25 نيسان 2024

إعلان

موسيقى - الجاز المشتقة منابعه من إثيوبيا ولبنان في مهرجانات بيبلوس \r\nإبرهيم معلوف ومولاتو أستاتكي، الترومبيت حاملة الهوية إلى العالم الجديد

مي منسى
A+ A-

الفكرة الأساسية التي تبنتها مهرجانات بيبلوس على مدى السنوات التي صار فيها لمدينة جبيل مهرجانات، كانت جد صائبة. إذ قامت على استقطاب الشباب إلى ثقافة الأحاسيس المكهربة، والانفعالات المشرقطة؛ ثقافة الروك والجاز والبوب، التي أرست في عالمنا الجديد أسماء هادرة، تساوت رهبة بالغيتارات الملغومة والإيقاعات الهستيرية والساكسوفونات التي تكسر جدار الصوت، منبعثة من أنفاس عازفين يسابقون موازين التنفس في ضخّهم أنبل ما يكون في تقاليد الجاز. المنافسات بين ترومبيت وساكسو، بين ضارب إيقاع وعازف بيانو، بين كزيلوفون حنون وباس جاف يتبادلان الأزهار والأشواك كحوار من العتاب بين ذكر وأنثى.
بحر جبيل العتيق، أسكت أمواجه الهادرة، وركن إلى السمع في توحّد مع الألوف من الشباب الذين ناداهم إلى هذه الليلة الجبيلية إسم إبرهيم معلوف، هذا الذي عرفته صغيراً يمتص رحيقاً من ترومبيت والده نسيم معلوف، المجهّزة بربع الصوت، ما يخوّلها لأن تكون من "مزاويج" الناي والمجوز وأبعد منهما صدى ومناداة. هكذا تأهّلت ترومبيت نسيم معلوف بهذا الشيء الزائد، كاسرة الحدود بين شرق وغرب، وهكذا خرج الولد من ظل أبيه، يناديه الرحيل إلى العالم الجديد وتحت إبطه آلة لا تزال كلما نفخ فيها، تنبض منها قشعريرات من الأرض، تهدهده لحظة استذكار وحنين، ثم تتوسع حولها المساحة الموسيقية لتلتقي برفيقات ثلاث مجهّزات بهذا الربع الصوتي الذي لولاه لما استحقت الترومبيت النحاسية تأشيرة الدخول إلى ريفنا اللبناني وشموسنا المشرقية.
الشطر الأول من الأمسية أضاء على الجاز لغة عالمية مطعّمة بموسيقى إتنية إثيوبية، جديرة بأن نسنّ السمع جيداً لندرك ما للجاز من مؤهلات في اختراقه نسيج إتنيات الشعوب والتغلغل فيه، لغةً تشرّع آفاق الثقافة الأثيوبية إلى العالم. كأن لهذه الليلة مختبرها من كيميائيات عضوية، تمازجت فيها بتناسق وانسجام الآلات الألكترونية بإرث الأرض.
مولاتو أستاتكي يعتبر اليوم أبا هذه الجبلة من الموسيقى التقليدية والإيقاعات الغربية. فلعل إقامته الموسيقية الطويلة في لندن ثم في بوسطن ونيويورك أشعلت غريزته الإتنية واجداً في الجاز معدناً قابلاً للذوبان في الإرث الأثيوبي. ففي ليلة بيبلوس كان مع فرقته المتعددة المهارات، ينتقل بين كزيلوفون وكي بورد وإيقاع، مركزاً على ابتكاراته، والعين ترمق باعتزاز ضارب الإيقاع المبدع في خلق هارمونيات صاخبة، وكم مدوزنة على البرهة، وعازف البيانو المراهن في أدائه السريع على خلاصة التعابير، والكونترباسي الطليعي في خلق أرض سوداء، حارقة، تتساوى مفعولا مع التام تام النابض من آلات الضرب، إلى أن تتلوّن المؤثرات الصوتية بسحر الساكسو والترومبيت يتفاعلان، والأنفاس من رئة بشرية واحدة، وعازفان إثيوبي البشرة وغربي اللون. ففي الموسيقى تزول العنصرية ويتحد الفنانون تحت قبة الفن ومعجزاتها.
في الشطر الثاني هو إبرهيم معلوف وفرقته يطلاّن على الجمهور خلف أضواء ضبابية قبل أن تتوضح الرؤيا على شاب ديناميكي، في مفاتيح آلته تأشيرة سفر إلى حيث موسيقى الشعوب تتلاقى في نحاس الترومبيت العجيبة.
في العام 2013 حاز إبرهيم معلوف جائزة عالمية كأفضل عازف موسيقى، ثم جائزة "فيكتوار دو لا موزيك". الموهبة في التأليف والأداء بدأت في سن مبكرة والترومبيت مرشدته، ممتلئةً بحبة الخردل التي بها شاع اسمه وتألّق، ما جعل منظمة الأونيسكو العالمية تصنّفه فتى مبدعاً في حواره بين عالمي الشرق والغرب.
ليلته الجبيلية لم تكن عودة حنين إلى الينبوع الأم، بل اجتهادات ماهرة من فتى تمازج في الحضارات وبنى على قاعدة نحاسيته المزوّدة ربع الصوت، تفاعلات بشرية، ثقافية نلمسها جبلة إلكتريكية من الأساليب والأنماط تكوّمت بإبداع هذا العبقري الشاب في جوهر واحد، الصداقة الأليفة بين أعضاء فرقته، فرنك ووست على الكي بورد، فرنسوا دلبورت على الغيتار، كزافيه روجيه على الدرامز، لوران دافيد على الباس، ثم والمشهد آسر حين تعلو معا الترومبيتات الثلاث المتوأمة بآلة إبرهيم، يوان لو كام، يان مارتان، ومارتان سكاردي، ومن هذا الولد الطافح بالمواهب أتقنوا سر ربع الصوت وتخاووا به.
فنان مبدع أشعل هذا الجزء الثاني من المهرجان بديناميته المنطلقة في كل مرة من أداء منفرد لنغم ينادينا من قرانا البعيدة ثم يتوسّع كاسراً حدود الدنيا، فنراه مع المجموعة ينقّب عن هذا الكنز الذي طالما حلم به، عالماً للسلام لا للسلاح، للحب لا للقتال.


[email protected]

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم