الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

كتاب - "بيهروز أجمل الأيام" لياسمينا منتظمي: قال الوالد لابنته قبّليني للمرة الأخيرة

جينا سلطان
A+ A-

أنجزت الكاتبة الفرنسية الايرانية ياسمينا منتظمي روايتها "بيهروز: افضل الأيام" عام 2012 واهدتها الى والدها المتوفى بيهروز "1944ـ 2006"، وذيلتها بأغنية ثورية حزينة رافقت اللحظات المتبقية لسجين سياسي إيراني قبل إعدامه أهداها بدوره إلى ابنته الوحيدة: "قبليني للمرة الأخيرة"، مما أعطى الرواية نكهة الوفاء للعصر الذي تجول فيه الاب بحرية فكرية عالية، كمراهق أبدي لم يبلغ سن الرشد أبدا.


ولد بيهروز قبل أوانه، لأم شابة تدعى روز، تاقت بشدة لأن تحتفظ بحريتها، فلا يثقل طفل على حياتها. لكن هشاشة الوليد وضعفه البالغ، أيقظا حس المسؤولية العالية لديها، فشعرت أن من واجبها متابعة الارادة الرائعة التي برهن بها هذا المخلوق عن نفسه. وحين نجا الطفل من الموت سمّاه والده بيهروز، التي معناها بالفارسية "افضل الأيام". منذ ذلك التاريخ ولاقتناعها بأن نجاة الرضيع كانت بسبب عنايتها وحدها، بدأت تغدق عليه اهتمامها الذي لم يلبث ان تحول الى نوع من الاضطهاد.
مع الزمن توصل بيهروز الى الاعجاب بزهد الخدم، كرد فعل عفوي على الحياة الغربية التي عاشها والداه، فخورين بالتحرر من سلطة كانا يعتبرانها نوعا من الافكار الظلامية ويقيّمانها بتعالٍ كهبوط في المستوى. هذا الانفصال عن المحيط جرّده من الرغبة في التأقلم مع الحدود الضيقة لكيانه الجسدي. لم تترسخ جذوره في اي مكان قصده، وقضى حياته مرتحلاً من مكان إلى آخر. هذه الوضعية التي تلزمه ان يكون زائرا في بيته، تناسبت تماما مع طبيعته العاجزة عن استيعاب قيم الملكية والخصوصية.
سافر بيهروز إلى فرنسا لإنجاز أطروحته، وبقي هناك ثلاثين عاما من دون أن يتخطى الفصل الأول منها، بذريعة التنقيح وإعادة التأليف لصياغة نظرية عالمية فريدة. عاش متبطلا على حساب روز التي غدت مؤلفة مشهورة في إيران تباع نسخ كتبها بعشرات الآلاف. انعكس عدم ممارسته أي عمل إحراجا متكررا لياسمينا، وخصوصاً في بداية كل عام دراسي، لكن تحرره من الالتزام المهني رسّخ نكران الذات والاندفاع في الكرم تجاه الآخرين، فشكل بيته ولمدة طويلة نقطة عبور للكثير من المنفيين والنازحين الايرانيين.
ظل بيهروز في نظر ابنته ياسمينا بطلا حقيقيا، فكتاباته ومواقفه السياسية منعته من العودة الى ايران. وبقيت تكهناته المعروفة وسط الشتات الايراني تملأها فخرا. على رغم موقفه من قائد الثورة العام، لم يمتنع عن اصطحاب رفاقه القدماء للحج الى مقر الخميني في قصر لو شاتو حيث سكن عام 1978. إذ لم يكن ير فيه المحرر القادم للشعب الايراني بل رجل السلطة المرعب، مع أن بلدة ايفيلين أصبحت حجرة الانتظار المهمة للثورة الايرانية. فعشرات الآلاف من المناصرين والمؤيدين كانوا يتدفقون يوميا من العالم اجمع ليكونوا فقط بالقرب من الخميني، لتتسنى لهم حظوة سماع احاديثه، وتحديه لأكبر امبراطورية قديمة في العالم. لكن قلة منهم توقعت ان سرورهم لن يدوم طويلا، وانه بعد نشوة نصر الثورة، سوف يطرد يعضهم كأنهم خونة بينما سيعدم الآخرون بكل بساطة.
تصف ياسمينا الاجتماعات السرية في المنزل لجماعة الناشطين من اتباع اليسار الراديكالي في ايران، وجنود المقاومة المسلحة الهاربين من البوليس السياسي السري للشاه. وتثمن طريقة بيهروز المميزة في تربيتها كموضوع كلي الحقوق، يتمتع بكامل قدراته العقلية في حرية الاختيار.
كان التليين السياسي النسبي للنظام الاسلامي بعد انتخاب رئيس الاصلاح خاتمي عام 1997 السبب الاول في قرار بيهروز العودة الى ايران. لم يجد رفاقه الناشطين، اذ سُحق القسم الاعظم منهم وأُغلق التاريخ خلفهم كفكّي كماشة. فقد اضطهدوا من نظاميين متواليين، نظام الشاه ونظام الخميني. صديقه بيجان الذي عاد ليستقر في ايران بعد سقوط الشاه كي يساهم في وضع الحجر الاساس لبناء مجتمع اكثر عدلا، كتب مقالة عن ديكتاتورية البروليتاريا قادته إلى السجن ليمضي فيه خمسة اعوام، حيث عذّب وأهين واجبر على تغيير معتقداته علنا. شعر بيهروز عندئذ بالإدانة كونه لم يسجن هو ايضا، ولم يجبر على تلاوة الصلوات. لم يجعله احد يدفع جزية لقاء افكاره وهو شاب. بالعكس، تمتع برفاهية التفكير حتى وصوله الى الشيخوخة. امام بيجان الذي مُنع من التدريس أو من مزاولة اي مهنة عامة، واختزل عمله الى سائق تاكسي، شعر بيهروز بالخجل لأنه لم ينل اطروحته.
الصديق الثاني الذي عثر عليه من جديد اثر عودته الى ايران كان غفار، الذي تهشّم وسُحق منذ تأسيس الثورة الاسلامية. اذ كان كاتبا معاديا للتقاليد الشرقية. تدريجاً، انزلق هذا الملحد الفاسق الذي جعلته الثورة الاسلامية معارضاً للتأثير الديني في الحياة العامة، نحو صوفية عميقة قادته حتى الهند. عند عودته اصبح مدمنا الأفيون وممارسا طقس الزهد والتقشف وفق تعاليم ساي بابا، وتحولت مشاعره كزير نساء الى حب مجرد. أما الشخصية المثيرة للدهشة فتمثلت في داريوس، الذي عانى منذ الثورة الاسلامية من انهيار عصبي شديد. فقد قتل الثقل البيروقراطي والازعاجات الادارية للنظام الجديد ديناميكيته. انهارت اعماله خلال اعوام قليلة بعدما كان رئيسا ناجحا لشركة كبيرة، وانتهى إلى الانفصال الكلي عن الواقع والاستغراق في تدخين سجائر الحشيشة، من دون أن تهزه حتى محاولات انتحار ابنته المتكررة، ولوثة العقل التي اصيب بها ابنه. وجود بيهروز بعد عودته إلى إيران نصف الوقت تحت سقف بيته، جعله يخرج من خموله النفسي، ليستمتع بفانتازيا الاخير النادرة، ليغدو الاثنان افضل صديقين في العالم يتشاركان بأريحية غريبة امرأة واحدة، زوجة داريوس.
بمنتهى العفوية والجرأة التقطت منتظمي شذرات من صلصال أمة عريقة، جُبلت من تعاقب الطغاة والمحررين، فاختبرت العظمة والمجد وتاهت في دروب الانحطاط، ورددت أصداء المعذبين الحالمين.

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم