الخميس - 18 نيسان 2024

إعلان

مهرجان - فرقة "باليه مرسيليا الوطني" نقلت باخرة "تيتانيك" إلى مهرجانات بيت الدين \r\nمشاهد راقصة على أصوات النورس وهدير البحر وموسيقى أنطون دفورجاك

مي منسى
A+ A-

لا شك أن العنوان المدرج في البرنامج وما جاء عنه من معلومات، أثار رغبة اللبنانيين وشجعهم على الانتقال إلى مهرجانات بيت الدين التي لا تزال موسماً تلو آخر ترنو في خياراتها إلى أفضل ما في الشرق والغرب من فنانين على جميع الأصعدة. كيف لا والليلة الخامسة من عروضها جاءت استذكارا لمئوية الـ"تيتانيك"، أكبر تراجيديا سياحية عرفها التاريخ، برؤى كوريغرافية معاصرة، قاعدتها "باليه مرسيليا الوطني"، المؤسسة التي رأت النور في العام 1972 على الكوريغرافي العالمي رولان بوتي وتوسعت شهرتها إلى آفاق العالم، حتى وصولها إلى لبنان اليوم بمعداتها ومؤثراتها البصرية والصوتية وراقصيها.
للحكاية صيغة مختلفة عن رائعة جيمس كاميرون السينمائية، بإيحاءات تعبيرية راقصة، مبتكرة من فكر مبدع، فريديريك فلامان، الذي شاء في هذه المغامرة السوريالية، أن يكون للبحر الهادر ونعيق النورس، دور رئيسي في التعبير الكوريغرافي، كما على أنغام موسيقى شارل إيف وألفرد شنيتك ودافيد لانغ وأنطون دفورجاك وجيروم كيرن.
الرمز الذي ارتكز عليه فلامان في بناء كوريغرافيته، كان حسب المادة الشحيحة التي أعطيت لنا، أكثر من مواجهة بين جبل الجليد وجبل من المعدن، من طريق تصوير المأساة البشرية التي بدأت هذه الرحلة بالفرح واللامبالاة وانتهت بالهلع والغرق والموت ذات ليلة من رأس السنة، بمادة فاعلة من الرقص الكلاسيكي والمعاصر. فهل عبّرت المشاهد اللقيطة من هنا وهناك عن الفكر الهندسي، الذي أسس له فريديريك فلامان لكوريغرافيا جريئة جمعت جمال الرقص بقساوة المعدن وحلم السفر؟
كوريغرافيا "تيتانيك" في قراءة حسية لما جاء في البرنامج، تمثّل إنتصار التكنولوجيا في العالم الجديد، وثقة البشر المطلقة في تطور العلم، ما يهدهد أحلامهم الكبرى.
على نغم عذب آت من كمان، يتوضح المشهد الواعد في بداية العرض. هيكل باخرة مضاءة، وعلى المسرح يؤدي راقصون مع بكرات الكابلات، دور الصيانة للباخرة وتجهيزها للسفر. إلى أن تنذر الموسيقى بالإقلاع فيما يتوافد الركاب؛ راقصون بثياب الاحتفالات الرسمية، وراقصات بفساتين خفيفة وقبعات من نسق زمن مضى. المشاهد المرتبط بعضها بالبعض الآخر تسهّل قراءة النص الكوريغرافي إلى أن تتحرر حكاية الـ"تيتانيك" كما رسخت في ذاكرتنا إلى عروض باروكية، تتراءى لنا الراقصة من البعيد كقصيدة هيولية، صعبة المنال، فيما المادة الواقعية في أمامية المسرح، نستشف من قراءتها ما يود عرض "تيتانيك" التعبير عنه بالرموز والاستعارات القائمة على حركة الأجساد المبدعة اداء في تخاويها مع باطن الباخرة التي كانت في ما مضى تعمل على الفحم.
قصيدة كوريغرافية في كل مقطع منها مشهد وموسيقى لا يرتبطان بالمشهد الآتي، كقطعة بازل مشتتة الأجزاء، فيما يجتهد فريديريك فلامان في لمّها وفي شموليتها يضيع حجر الزاوية من هذه القبة الجميلة المشيّدة على الرونق وآيات من الذوق الرفيع أولا، في إدارة الرقص الأنثوي بشفافية آسرة، وثانيا إدخال الحركة الذكورية بما تتحلى به من فن كوريغرافي ورشاقة في لبّ عالمنا المعاصر الواقعي. فحتى حين تنقسم الباخرة كان ظل راقص يحاول من أعلاها منع حصول الكارثة. الانسان هنا قد يرمز إلى صراعه ضد الثورة الصناعية، وسلطته على المادة التي اخترعها وباتت أقوى منه.
في العام 1992 قدّم عرض "تيتانيك" للمرة الأولى في مدينة شارلروا في بلجيكا بالتعاون مع فابريزيو بليسي الخبير بالتقنيات البلاستية، والعالم الكوريغرافي المعروف بقدرته على التفوّق على المادة، تجاوز أسطورته بانتصار التكنولوجيا في تحفة "تيتانيك". وكأن من خلال هذا العمل دخل فن الرقص العالم الجديد حاملاً في رموزيته ثقة البشر المطلقة في تطور العلم وأحلامه الكبرى.
في المشهد الأخير الذي زادنا حيرة، دخلت الثلاّجات عنصراً في الرقص. فكما أدى الراقصون في بداية العرض، مشهدا راقصا مع بكرات كابلات الباخرة، في غضون تجهيزها للإقلاع، فإنهم ختموه بأجساد لم تقاوم صقيع هذا الاختراع المنزلي الضروري، بل تخاوت به. كنا على مفترق طرق بين قبول المادة الباردة التي لا روح لها ولا مشاعر، أو أن نترك للحلم مكانا في واقعنا المادي فنتمتّع برؤية جسد راقص يترك قشرته البشرية على الثلاّجة أو على مرفأ الباخرة، ليهيم في عالم الآلهة.


[email protected]

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم