الأربعاء - 24 نيسان 2024

إعلان

تحشيش - حين "يحشّش" الشعب

نزار عبد الستار
A+ A-

نضحك من قهرنا.
هذا ما قالته دعاء وهي تدفع بسبابتها، نظارتها السوداء، طالبةً مني الكف عن إضحاكها لأن الدموع تؤثر في عينيها. اعتذرت وسألتها إن كانت ترى بالفعل أننا تحولنا إلى شعب ساخر. التقطت بشفتيها القرمزيتين قصبة العصير، وأخذت رشفة ثم قالت إنها تعتقد أن السخرية هي الرد الطبيعي على الأخطاء السياسية الحاصلة في البلد، وإن فن "التحشيش" الذي هو مصطلح عراقي يُطلَق على النكتة، ازدهر بسبب انتشار مواقع التواصل الاجتماعي، وأيضا بسبب الجيل الثالث من الموبايلات، الأمر الذي أتاح فرصة كبيرة لصناعة الفكاهة وتداولها على نطاق واسع، وخصوصاً بين الشباب.
تابعت دعاء:
الجميل في الموضوع أن الـ"فايسبوك" يحتوي على مئات المجموعات الـ"فايسبوكية" "التحشيشية" العراقية الساخرة، وهي تطرح فناً راقياً وهادفاً يبتعد عن البذاءة؛ وهذه نقطة تُحسَب للشباب الذين طوّروا قابلياتهم في الانتقاد الذكي والمتزن.
سألتها وأنا أتصنع الجدية:
- ما هي آخر "تحشيشة" وصلتك؟
فتحت موبايلها وهي تردّ:
- صورة امرأة منقبة تدعى أم بزون فازت بمقعد كوتا. بس، الله عليك، لا تضحك وتضحكني.
سعدون، وهو ناشط "فايسبوكي"، قال إن "التحشيش" العراقي الآن يعدّ الأول على مستوى الدول العربية، وإن المصريين فشلوا في اللحاق بالعراقيين لأن العراق تتوفر فيه مادة دسمة لـ"التحشيش"، وإنه في صدد تنظيم استفتاء "فايسبوكي" من أجل إثبات هذه الحقيقة.
سألته عن المادة الدسمة ومن أين تأتي. استغرب سؤالي، واعتقد انه استنتج أنني لست نشطاً "فايسبوكياً"، فقال إن السياسة هي المادة الدسمة "للتحشيش"، وبما أن العشرات من السياسيين يرتكبون مئات الأخطاء في اليوم، فإن "التحشيش" العراقي بخير. شرح لي كيف أن التحشيشة القوية تعيش طويلاً وتنتقل إلى دول أخرى، وأكد أن "التحشيشات" العراقية بسبب الأمطار انتقلت بسرعة البرق إلى اللبنانيين والسوريين.
تابع سعدون:
الأمر لا يحتاج إلى جهد، فالتصريحات السياسية كلها مضحكة، وغريبة، وبتعليق بسيط يمكن أن تتحول إلى "تحشيشة" تكسر الدنيا.
مهنّد، وهو ناشط ساخر تحدث عن ظاهرة "المحششات" وقال إن الشابة العراقية دخلت عالم "التحشيش" من أوسع أبوابه، وإن في الـ"فايسبوك" "محششات" رهيبات يجدن العمل على الكومبيوتر، وإنه شخصياً يفضل "التحشيشات" النسائية لأنها طريفة للغاية، ومتخصصة بالبرلمانيات وسلوكهن الاعلامي.
نبّهني مهند إلى أن الوقت الحالي هو الموسم الأكثر ازدهاراً "للتحشيش" بسبب "داعش" وانتشار الطائفية. ما إن تحدث أمنية حتى يشتعل "التحشيش" وتنقلب الدنيا.
سألتُ مهنّد عن الأخطاء السياسية التي تثير السخرية أكثر من غيرها، فضحك وقال إنه يشكّ في أمر، وإن هذا الموضوع حيّره كثيراً، ولم يجد له أي تفسير. تابع:
- أنت بكل تأكيد تذكر "تحشيشة الصخرة" التي جاءت على خلفية إعلان الحكومة أن أحد معارضي رئيس الوزراء ألقى بصخرة عظيمة في المجاري كي تغرق بغداد. نحن لم نأت بشيء من جيبنا. إنها تحفة عظيمة وغير معقولة أيضاً، لذلك أنا أشكّ في ما يحدث.
سألته بجفاف رقيق:
- كيف يعني.
نظر في عيني وقال:
أعتقد يا نزار أن سياسيينا "يحششون" علينا نحن الشعب.
أدرتُها برأسي، وقلت له:
- وجهة نظر منطقية جداً.
أمسك بيدي وقال:
- يا أخي، تصريحاتهم وأفعالهم قوية جداً ومضحكة للغاية. إنها "أوفر" للغاية، ومن غير المعقول أن تكون هذه حقيقة، لذلك أنا أعتقد أنهم "يحششون" على الشعب.
عارض عبد الرحمن رأيي الذي أوردته في شأن الديموقراطية وأنها هي التي دعت الشعب إلى ممارسة فنّ "التحشيش"، وأرجع السبب الى الأداء السياسي الغريب والقريب من اللامعقول وإلى التقدم الحاصل في الوسائل الألكترونية. وقال إن فنّ "التحشيش" الشعبي يعتمد على التناقضات السياسية والأداء الضحل؛ تالياً فإن هذا يحفز كثيراً على الانتقاد. ولأن الشعب بات لا يؤمن بالفوارق المذهبية والعرقية، يلجأ إلى السخرية، وبين الحين والآخر تظهر شخصية سياسية تكون محطّ اهتمام "التحشيش".
وأكد عبد الرحمن أن فنّ "التحشيش" ساهم بشكل فاعل في إزاحة العديد من الشخصيات من ساحة التأثير، وأن مفعوله يظهر في الانتخابات عادة.
رداً على سؤالي في شأن احتمالات أن يلقى "التحشيش" اهتماماً من الحكومة، قال عبد الرحمن إن الحكومة والشخصيات العامة تتابع "التحشيش" عن قرب، وهي متواصلة معه، واغلب ردود الأفعال ناجمة من هذه المتابعة، وإنه يعدّ هذا الأمر نقلة كبيرة في الوعي والتأثر بالشعب، ويتوقع أن يشكل "التحشيش" قوة ضغط.
أضاف:
- الحكومة الآن يا نزار تردّ على تحشيشنا ببيانات صحافية. هذه سابقة خطيرة في التاريخ. لم يحدث في أيّ دولة أن أصدرت الحكومة بياناً لنفي نكتة. كيف تريدنا ألا نحشّش، وعندنا بلد جميل كهذا.
أحببتُ عقله، فطلبتُ منه أن يوضح أكثر فقال إن "التحشيش" يلعب دور استطلاع الرأي؛ في الامكان الآن معرفة رأي الشعب من خلال هذه "التحشيشات". إنها وسيلة ناجحة للتحقق من الأشياء على الأرض، ويمكن أيضاً معرفة توجهات الشارع والقضايا التي تهمّه.
وأردف أن السياسة الآن تشغل الشباب أكثر من أيّ وقت آخر والجميع يريد التعبير عن رأيه، وهذا الأمر يعدّ نقطة تطور كبيرة جداً، وأن ما يفرزه هذا التعبير من فنون عدة يشكّل في مجمله توجهاً واعياً وارادة يجب أن تحترم.
قال بجدية:
- هذه ليست سخرية مجردة أو عابرة.
قلت وأنا ابتسم:
- معك حق.

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم