الأربعاء - 24 نيسان 2024

إعلان

حرب التشيّع بين الفرس والعرب

رامي زيدان
A+ A-

ثمة موضوع لافت ومثير للجدل يتم تناوله منذ عقود، وقد زادت وتيرته في الأعوام القليلة الماضية، يتعلق بالتشيع العربي والتشيع الفارسي، أصلهما وفصلهما. من خلال تقصّينا مجموعة من العناوين الصادرة حول هذا الموضع الشائك وتبحّرنا بين سطورها، ربما نتوصل الى ضوء في نفق الأزمة الشرقية. في الواجهة اليوم كتب، من مثل "التشيع السياسي والتشيع الديني" للعراقي أحمد الكاتب، "التشيع العربي والتشيع الفارسي" للعراقي نبيل الحيدري، وقبلهما كتاب "التشيع العلوي والتشيع الفارسي" للمفكر الإيراني علي شريعتي (1933 – 1977). ترتبط هذه الكتب بدراسات أخرى كثيرة تتناول هذا الموضوع الشائك.


القضية الملحة في جانب من هذه الكتب، لا تتعلق بالفقه الديني بل بالبعد القومي والشوفيني والعنصري للتشيع الفارسي، وليس أدل على ذلك من صورة العربي في الأدب القومي الفارسي. مراجعة كتاب "صورة العرب في الأدب الفارسي الحديث"، تأليف الباحثة الأميركية جويا بلندل، تعطي لمحة عن صورة العرب لدى الايرانيين، فالكتاب يرصد صعود النزعة القومية الايرانية في إيران 1921 - 1979، التي تعتبر أن الاسلام والعرب من أسباب التخلف الايراني، وأنهما يتحملان مسؤولية تدهور الحضارة الفارسية. وقد برز أثر هذه الشوفينية القومية في مرحلة الثورة الخمينية، التي جاءت ببعد ديني ولا تخلو من عصبية قومية. صورة العربي هي دائماً ذلك الهمجي آكل السحالي والحافي القدمين في الصحراء.
يبدو أن النص الديني والفقهي لبعض رجال الدين الفرس أشد فتكا وشناعة في التصوير المتخيل والمختلق لبعض الشخصيات الدينية العربية أو الاسلامية، وخصوصاً عمر بن الخطاب وأبا بكر الصديق وعائشة زوجة النبي. ربما هي لعبة الانتقام من التاريخ بسبب هزيمة الفرس يوماً ما أمام العرب، وهذا ما يبيّنه بقوة كتاب نبيل الحيدري عن "التشيع العربي والتشيع الفارسي".
من يقرأ الكتب التي ذكرناها، لا بد أن يستنبط أصل الصورة المضطربة للجماعات والفرق الدينية الاسلامية في الشرق الأوسط، ولا بد أن يكتشف أصل البلاء وفصله. ما يجمع بين الكتب الثلاثة التي ذكرناها، أن مؤلفيها هم مفكرون وباحثون شيعة، لم يأخذوا على عاتقهم تفسير التشيع و"طبقاته" كما يقول ابن سعد، بل بحثوا في أطر توظيف التشيع في الشأن العام ودوره في مآل "الأمة الاسلامية" و"العربية". فعلي شريعتي وهو مفكر بارز قتل على يد مخابرات الشاه في أميركا عام 1977، حاول عشية الثورة الإيرانية، أن يقرأ التراث قراءة حية ويوظفه في خدمة "المشروع الإسلامي"، فألقى الضوء على نموذجين من التشيع أطلق على أحدهما "التشيع العلوي" وعلى الآخر "التشيع الصفوي"، وانتقد السلبيات التي كان يعانيها المجتمع الإيراني والمجتمعات الشيعية الأخرى، داعياً إلى الإقتداء بنموذج التشيع العلوي "المفعم بروح الوحدة والعدالة والثورة". لكن شريعتي بحسب الباحث العراقي أحمد الكاتب، لم يركز كثيراً على دراسة منشأ الانحراف في الحركة الشيعية التاريخية، وإنما حاول الالتفاف على بعض الخرافات والأساطير المتسربة في الفكر التراثي الشيعي. لم يبحث في أصل موضوع الإثني عشرية، وإنما حاول الالتفاف عليه بالدعوة الى الشورى في مرحلة غيبة الإمام الثاني عشر الكبرى. ولم يبحث شريعتي في أصل فرضية وجود الإمام الثاني عشر المسؤولة عن "تخدير الشيعة ومنعهم من المشاركة السياسية، وانتظار التغيير من السماء، وانما قام بالالتفاف عليها بتقديم تفسير جديد لمعنى الانتظار هو الانتظار الإيجابي الذي يعني العمل والثورة تمهيداً لخروج المهدي". والحال أن من يقرأ الطقوس والروايات التي يوردها المؤلف يحسب أن الاصل الديني ضاع في متاهة الفرق والغلاة والمتطرفين.


ماذا فعل علي شريعتي؟
حاول علي شريعتي وهو الشخصية المثيرة للجدل والمؤثرة في الكثير من المثقفين الذين يمزجون الاسلام باليسار، أن يقدم خلطة ثقافية دينية اسلامية تخرق الطقوس القومية الفارسية وتقترب من العرب، لكنه حورب من كل الجهات. ترحَّم على عمر بن الخطاب، ووصفه بالعدل؛ فأغضب غلاة الشيعة الذين نعتوه بالوهّابي المتسنِّن، وكان متأثرًا بالفكر الماركسي، ومنظّرًا عن العدالة الاجتماعية؛ فنعته آية الله الكوراني بالثوري الشيوعي المتغرِّب. وقد أثار كتابه "التشيع العلوي" جدلاً كبيراً في إيران وتحركت ضده سلطة الفقهاء لتصدر الفتاوى بتكفيره، لأثره النقدي والتحليلي والواقعي الذي هزّ مضاجعهم وهدد سلطتهم وسطوتهم. لا نريد الدخول في تفاصيل افكار شريعتي فهي كثيرة، لكن علينا التأمل قليلاً في ما أورده في كتابه "التشيع العلوي والتشيع الصفوي"، الذي أفاض فيه في إلقاء الضوء على تسييس الدين - التشيع نموذجًا- الذي تم على يد الصفويين في إيران كجزء من لعبة كبرى أرادت رفع شعار آل البيت في مواجهة المد العثماني السني، ولم تجد خيرًا من رفع سلاح الدين المسيّس كذريعة لتوحيد الفرس خلفها، وإضفاء صبغة قومية عليه! يلاحظ شريعتي أنه في مقابل "التشيع الصفوي" كان "التسنن الأموي"، وهما وجهان لعملة واحدة. فالتسنن الأموي يستغل عنوان المذهب السني لإمرار المخططات الرامية لفرض الهيمنة على مقدرات الشعوب، وتبرير أعمال السلاطين. "التشيع الصفوي" وقرينه "التسنن الأموي"، كلاهما مذهب اختلاف وشقاق؛ الحقد والضغينة من خصائصهما، يمثلان الإسلام الرسمي، وكلاهما دين حكومي، الأول لتبرير الحكم الصفوي والثاني لتبرير الوجود الأموي في موقع الخلافة. نظرة فيها الكثير من الدقة إلى الواقع المرير الذي نعيشه، وتشخيص مسبق لأنظمة تهلك شعوبها في سبيل مصالحها. كان شريعتي خارقا للتابوات القومية، لكن السؤال: لو بقي علي شريعتي حياً الى ما بعد الثورة الخمينية، ماذا كان ليكتب عنها؟ هل يتوافق مع ثقافة "الولي الفقيه"؟ النافل أن معظم المثقفين الذي ساندوا الخميني تعرضوا للتهميش والنفي والاعدام. فالخميني الذي كان محاطاً بالمثقفين في باريس، عاد الى قم واصبح محاطاً برجال الدين والملالي. امام هذا المشهد ماذا يبقى لشريعتي؟ ربما يكون قدره مثل معظم الذين ينظّرون للثورات وسرعان ما تأكلهم الثورات. ربما سلوك الخمينية مع شريعتي كسلوك الشاهية الصفوية التي لم تحتمل آراء شريعتي فالتهمت حياته. الخميني بحسب نبيل الحيدري، لم يكن وفياً حتى مع من كان اعلم منه وانقذه من الاعدام كاظم شريعتمداري، فقد جعله في الإقامة الجبرية حتى وفاته بشكل غامض، بل منع محمد رضا الصدر من الصلاة عليه.


ماذا يقول أحمد الكاتب؟
وإذا كانت نظرة علي شريعتي إلى التشيع لها ايجابياتها، فإن الآراء تختلف حول جوهرها. يقول احمد الكاتب: "ومع تقديرنا للجهد الذي قام به شريعتي، والدور الذي لعبه في تفجير الثورة الاسلامية في إيران، نعتقد أن ازمة الشيعة لم تبدأ من العصر الصفوي، وإنما ابتدأت من تحول فريق من الشيعة من التشيع السياسي الى التشيع الديني في القرن الثاني الهجري". وفي رأي أحمد الكاتب أن تشكل نظرية "الإمامة الإلهية لأهل البيت" التي قال بها فريق من الشيعة في التاريخ، مادة خصبة أو وقود لا ينضب في أتون التفرقة بين المسلمين. فمن جهة يعتقد الإمامية أن تلك النظرية من صلب الاسلام والتشيع، وضرورة من ضرورات الدين، ويصعب عليهم تالياً التخلي عنها. من جهة أخرى، يستنكر المسلمون السنة تلك النظرية وتوابعها كالموقف السلبي من الصحابة وأبي بكر وعمر، وهذا يؤدي الى استمرار التشنج والخلاف بين الطرفين، وربما انقسامهما فسطاطين متعاديين. أحمد الكاتب من جنوب العراق صدرت له كتب مهمة أثارت ضجة في الأوساط الشيعية على وجه التحديد لكنها أثمرت حواراً عميقاً وأفكاراً وردوداً كثيرة في أصول المذهب الشيعي الإثني عشري وصلت الى 100 كتاب في الرد على كتابه "تطور الفكر السياسي الشيعي من الشورى الى ولاية الفقيه: الإمام المهدي حقيقة تاريخية أم فريضة فلسفية". انه الكتاب الذي استفز عقول المفكرين والمثقفين من المذهب الشيعي حيث نفى العصمة عن آل البيت ودحض نظرية الإمامة من أساسها واعتبر أن الإمام الثاني عشر هو مجرد رؤية مخترعة وليس حقيقة تاريخية. وهذا جزء من منظومة اعماله. في كتابه "التشيع السياسي"، يعتبر أحمد الكاتب أن التشيع ظهر على يد الأمام علي في مواجهة خصومه في الفتنة الكبرى. يومها لم يكن التشيع يحمل أي تمايز ديني في العقيدة أو الصلاة أو الصوم، بقدر ما كان يحمل رؤية خاصة في تفسير الدين بالعدل والمساواة واحترام كلمة الامة. في هذا المعنى كان طابع التشيع هو طابع الأمة الاسلامية كلها. لقد حدث أول شقاق بين المسلمين، ليس بين الشيعة والسنة، وإنما بين الجماهير والحكّام الذين استولوا على السلطة بالقوة، وكان الانشقاق السياسي أقرب إلى التقسيم السياسي الذي يقسم الاحزاب بين يمين ويسار. ثم حدث شقاق آخر في وقت متأخر في صفوف الشيعة أنفسهم بين مَن يتمسك بـ"التشيع السياسي" المعروف في عهد الإمام علي والحسين، وبين مَن أخذ يؤمن بالتشيع الديني الذي يحصر الخلافة في الأئمة من أبناء علي والحسين، ويعتقد بعصمتهم وبارتباطهم بالسماء، وفق نظرية "الأمة الإلهية" التي رفعها أصحابها الى مستوى العقيدة الدينية.
يدعو أحمد الكاتب إلى إلغاء المذهب الشيعي الإمامي الإثني عشري الذي ينتمي إليه الآن معظم سكان إيران وجزء من سكان العراق وبعض البلدان العربية. تأتي شجاعة هذا الموقف في أن الكاتب شخصياً ينتمي بحكم الولادة إلى المذهب الإثني عشري. يقول عن نفسه: "كنت أنا شخصياً قد ولدت ونشأت على الإيمان بتلك العقيدة وأصبحت من الدعاة إليها، ولكني قمت بعد حين بمراجعة تلك العقيدة عام 1990، وذلك أثناء بحثي عن نظرية "ولاية الفقيه" وأصولها التاريخية، فعثرت على نصوص قديمة من مشايخ الطائفة الإثني عشرية، تصرح بعدم وجود أدلة تاريخية قاطعة على ولادة الإمام الثاني عشر محمد بن الحسن العسكري، وبأن الإيمان بولادته ووجوده يقوم على افتراضات كلامية عقلية، فدفعني ذلك إلى دراسة نظرية الإمامة الإلهية من جديد، لأكتشف أنها لم تكن نظرية أهل البيت السياسية، وإنما كانت من صنع المتكلمين والغلاة الذين يلتفّون حول الأئمة".
على أن أحمد الكاتب استخدم طريقة أخرى غير طريقة النصوص لإثبات الفساد في المذهب الإثني عشري، وهي أن الإمام علي شخصياً قد صاهر أبا بكر وعمر، وعمل في جهاز الدولة مع كل من أبي بكر وعمر وعثمان، وأنه أصبح خليفة رابعاً بعد هؤلاء. بحسب المذهب، ذلك غير متاح. فإما أنه كتم الحق، وإما أن المسألة ليست مسألة دينية بل مسألة سياسية. كما أن عدداً كبيراً من آل البيت أنفسهم رفضوا مبايعة الأئمة المنصوص عليهم كما يزعم الشيعة الإثنا عشرية. فهل هؤلاء لم تصل إليهم مثلاً الصحف المنسوبة إلى السيدة فاطمة، أم أن هؤلاء قد كفروا بالأئمة وهم يعلمون أنهم على الحق؟ بل إن معظم آل البيت كانوا في الطرف المغاير للإثني عشرية وفجروا ثورات بدءاً من الإمام زيد حتى طول التاريخ وعرضه، وكان الجمهور ينضم إليهم. كذلك فإن عدداً من الحوادث أفسدت منطق الشيعة الإثني عشرية. يقول أحمد الكاتب تحت عنوان "نهاية التشيع الديني"، إن الحسن العسكري توفي وهو شاب قبل أن يوصي بالإمامة لأحد، وإن نظرية الإمامة الإلهية وصلت، بغضّ النظر عن حقيقة ولادة الإمام الغائب، "الى طريق مسدود وانتهت عمليا بعدم وجود إمام ظاهر من سلالة الحسين منذ ذلك التاريخ" عام 260 هجرية.


ماذا فعل نبيل الحيدري؟
يبدو الباحث العراقي نبيل الحيدري اكثر شمولية ومباشرة في تناول "التشيع العربي والتشيع الفارسي". فهو يوجه النقد اللاذع لرجال الدين ولا يوفر حتى السيستاني والخميني، وقد استطاع أن يغور لسنين طويلة عميقة في أكثر من ألف ومئتي مصدر ومرجع أهمها الكتب الشيعية الأصلية الأولية لدراسة أوائل تلك الظواهر الغريبة وأصحابها الأصليين ثم المراحل التراكمية والتطورية لهذه الظواهر في أكثر من ثلاثين مرحلة، في أخطائها وأخطارها وآثارها فضلا عن تناقضاتها مع القرآن الكريم والسنّة ومدرسة آل البيت التي ترفض الغلو والتكفير والطقوس والبدع. يثبت الكاتب أن التشيع العربي يلتقي مع التسنن المحمدي في الأصول الإسلامية وأركان الدين الحنيف والمبادئ القرآنية كما يحترم الخلفاء الراشدين الأربعة وأزواج النبي. يبحث الكتاب في الأثر الفارسي الذي أدخل في التشيع مختلف الإنحرافات الفكرية والإشكالات العقائدية والبدع على مرّ التاريخ منذ العصور الأولى حيث الإمام علي وأوائل تلك الظواهر الفارسية ومواقف الإمام المعارضة بشدة، وكذلك المراحل اللاحقة لأبنائه واحداً تلو آخر، ثم عصر الغيبة بمرحلتيها الصغيرة والكبيرة، والحركات الفارسية أيام العصر العباسي، ثم مرحلة الدولة البويهية. والمراحل التي لحقتها مثل الدولة العبيدية الفاطمية ثم الدولة الصفوية الفارسية حيث يتحالف الوعاظ مع السلاطين.
لا يغفل الحيدري عن التوسع في محاولات الإصلاح العربية لفقهاء عرب متميزين أمثال محمد حسين فضل الله وهاشم معروف الحسني ومحسن الأمين ومحمد باقر الصدر ومهدي الحيدري ومحمد شمس الدين ومحمد جواد مغنية ومحمد حسين كاشف الغطاء. يتناول الحيدري تأثير الدولة الصفوية فى زمن سطوتها وسلطتها وكيف تسلم الشاه إسماعيل حيدر الصفوي الحكم عام 1501 وجمع بين السلطتين الدينية والدنيوية ونظر إليه كممثل للمهدي المنتظر والولي الهادي حصراً وحوّل إيران إلى دولة شيعية بالقهر والقوة والسلطان وأحدث نقلة في التشيع محوّلاً إياه إلى عقائد وفقه وثقافة وتقاليد وأعراف وممارسات لتحريفه عن "التشيع العلوي" ومبادئ الإمام علي وحركته الثقافية الفكرية العقائدية الاجتماعية السياسية، مما بات معروفاً بـ"التشيع الصفوي". وقد تجد عرباً انحازوا إلى التشيع الصفوي بل ربما هاجر بعضهم إلى الدولة الصفوية وحجّوا إليها وأيّدوها وأفادوا منها كثيرا. ومن الجانب الآخر تجد فرساً وأتراكاً وقوميات أخرى نقدوا الصفوية وحكومتها وفسادها وجرائمها وانحرافها وانحازوا إلى الإمام علي ومبادئه وما يسمى بـ"التشيع العلوي" مثل علي شريعتي ومحمد تقي القمي ومحمد صالح المازندراني وإبراهيم جناتي وغيرهم كثيرون. لا يقصد نبيل الحيدري الإيرانيين في بحثه، لكنه يتناول تأثير رموز معينة ومحدودة منهم وخصوصا أصحاب القرار في السلطتين السياسية والدينية ودورهم في الانحراف الشيعي ومراحله المختلفة ومنها مرحلة الدولة البويهية الفارسية حيث تحالفت السلطتان الدينية والحكومية، وفيها تشيع غرب إيران، وفيها أيضا ألّف الفرس الكتب الحديثية الأربعة كمرجع أعلى للحديث (الكليني والقمي والطوسي) عن الفرس الذين وضعوا من الانحرافات والبدع الكثير حتى صارت مرجعاً مقدساً لكل من جاء بعدهم، وأسست الدولة الكثير من الطقوس الفارسية كأنها تستلهم من الأمبراطوربة الكسروية وأدخلتها في الدين والعقيدة الشيعية والفكر والتراث. ويبيّن الحيدري أنه كان من الصعب على الحضارة الفارسية والكبرياء الكسروية أن تخضع للعرب وخليفتهم في معركة القادسية وتنكسر عندها شوكتها وغطرستها وتاريخها وثقافتها ودينها لمن تعتبره أعراب الصحراء المتخلفين عن الحضارة والعلم. لكن الإنتقام من الدين والعرب والثقافة ظهر في التغلغل الفارسي والإنتقام من الخليفة، وفي العنصرية ضد العرب. الفرس الذين جاؤوا إلى الكوفة وتشيّعوا، جلبوا معهم تراث تقديس ملوك الفرس، بمعنى أنهم نقلوا هذه الثقافة من حيث الغلو في تعظيم الأئمة والطعن في مخالفيهم.


استنتاجات
ثمة استنتاجات مهمة في الكتب التي بين أيدينا. هي أشبه بالذخائر لأنها توضح الكثير من الأمور الملتبسة والمشوهة سواء في التاريخ أو في الحاضر. ثمة أفكار يغلب عليها الطابع العاطفي السياسي ولا تندرج في إطار البحث العلمي، كأن الكاتب يهدف الى التغيير وليس الى اظهار الحقائق، وخصوصاً حين يرفع أحمد الكاتب شعار "التشيع السياسي" كبديل من "التشيع الديني"، فهذا الرأي يحمل الكثير من التأويلات والتخمينات وثمرته غير مضمونة النتائج. والبارز في قول أحمد الكاتب هو تشخيصه لواقع المسلمين فيقول إنه بدلا من أن يتوحد المسلمون سنة وشيعة وينخرطوا في مشروع نهضوي واحد، راح بعض أصحاب العقليات الطائفية المتحجرة يروج الأفكار والنظريات الشيعية القديمة والميتة، ويشوش على "التشيع السياسي" الثوري والعلوي. في حين ذهب البعض من خصوم الشيعة ليفتش في مقابر التاريخ والكتب الصفراء عن نقاط الخلاف والعيوب التي كان يتصف بها الغلاة من الشيعة وبعض المذاهب المتطرفة والمنقرضة. أما بحث نبيل الحيدري فهو محاولة جديرة لإعادة الاعتبار إلى التشيع الأصلي، أي التشيع كما بصورته في زمن الإمام علي، بعيدا من الانحرافات التي جعلت التشيع يصير ثقافات عجيبة وغريبة من الكراهية والطقوس والتخدير واللعن في العقيدة والفقه والفكر والممارسات. ما بين أحمد الكاتب ونبيل الحيدري يحضر طيف على شريعتي الذي قتل بسبب أفكاره.
نجد في الكتب المذكورة قيمة معرفية والكثير من القضايا الجديدة التي تكشف وقائع ودسائس تقوم بها بعض الفرق الدينية المغالية في تطرفها وهذيانها. للحظة، نستهجن تلك الأفعال، لكن حين نتأمل في تاريخ الأديان، نشعر أنها خرجت عن مسارها، وتحولت فرقها مثل شبكة عنكبوتية، فلم يعد ينفع الحديث عن الاصلاح مع هذه الفرق، ولا العودة الى الأصول، بل ربما أوجبت الأمور التحرر من أسر الدسائس الدينية والالتحاق بأفكار معاصرة تتحدى الشبح الداعشي والحالشي.

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم