الخميس - 25 نيسان 2024

إعلان

كتاب - "جون بارليكورن" لجاك لندن: خداع العقل المتخم بشهوة الحياة

جينا سلطان
A+ A-

توقظ متعة الابحار وسط مغامرات الكاتب الأميركي الشهير جاك لندن شهوة الحياة الجامحة، التي يستغرقها التعاطف الخافت المبني على التفهم. نصغي إلى صوته وهو يقص علينا في روايته "جون بارليكورن"، تفاصيل عراكه مع سلطة الكحول المتكئة على أسوار الفخر الرجولي، فيسبغ عليها طابع السيرة الذاتية المتآخية مع روح العصر، والمغلفة بنكهة فكاهية مرحة.


يشخص نشوة الكحول ككينونة مراوغة تجمع بين المتناقضات، وتتحرك بسحر خبيث يليق بغواية الشيطان، مطلقا عليها اسم "جون بارليكورن" في اعتراف بالبطولة المطلقة، التي تتوارى معها الشخصيات الحقيقية كظلال هامشية!
كان جاك لندن رحالة وكاتبا، حضن طوال حياته حريقا جهنميا كحوليا تغذى على حرارة نفسه ليلتهب بشكل اقوى. فالحضارة التي نشأ وترعرع فيها، سمحت بترخيص بيع سمّ الروح في كل مكان، مما يترجم بحتمية فشل كل التحذيرات والمواعظ لإبعاد الفتيان والشبان الذين يكبرون عن جون بارليكورن، وخصوصاً حين يكون سمة للرجولة والجسارة والحيوية المتقدة. هذا ما دفعه في مراحل عمره المتقدمة إلى التصويت إبان تعديل الدستور لمنح المرأة حقها في الاقتراع. لأن النساء سيصوتن عندئذ تأييدا لمنع الكحول. فهنّ الزوجات والأخوات والأمهات، وهن الوحيدات اللواتي سيدققن المسمار في نعش جون بارليكورن. هذا يعني حياة اكثر وفرة لرجولة الأولاد الصغار الذين يولدون ويكبرون، وحياة اوفر للفتيات الصغيرات اللواتي يولدن ويكبرن ليشاركن هؤلاء الرجال الشباب حياتهم.
يعترف لندن بأنه في قضية تعاطي المشروب، كان شخصا عاديا بالنسبة إلى جيله، فقد حافظ الكحول على مذاقه الكريه، وأثبت نفسه كتدريب عقلي يصقل في تربة اجتماعية، وكذوق تم اكتسابه بصورة مؤلمة. اذ احتاج الجسد الى عشرين عاما من التمرين العنيد حتى بات متحملا له وراغبا فيه. أما الثمن فُدفع مع ربا فاحش إضافي في أغلب الأحيان، لأن كل قوة يهبها جون بارليكورن، يقابلها ضعف، وكل لحظة خيالية بطولية يقابلها وقت مرادف في وحل قذر. ويظل التأثير البدني أخف وطأة، ازاء مرض الروح الذي يصيب صاحب الخيال الجامح.
كان لندن في الخامسة من عمره حين سكر للمرة الأولى، عندما نقل لوالده الفلاح في الريف البدائي سطلا من البيرة. مع خوفه الشديد من اراقة القطرات الثمينة من الابريق الممتلئ، وجد نفسه يرشفها ليتسمم جسده الصغير. ثم حدثت الجولة التالية مع جون في السابعة أثناء حفل صاخب، وبسبب الخوف أيضا من تبعات السمعة السيئة للمهاجرين الطليان، وما بدأ كدعوة عابثة بتقديم نبيذ رديء للطفل، انتهى مع توالي الكؤوس والصمود الأسطوري للبنية القوية إلى جنون هذياني مرعب، ضرب المراكز العصبية وهزّ الجسد بتشنجات مرعبة.
حين بلغ العاشرة من عمره تركت عائلته العمل في المزارع ورحلت لتعيش في المدينة. هناك بدأ العمل كبائع صحف. ووجد طريقه الى المكتبة العامة المجانية، فقرأ كل شيء في التاريخ والمغامرات والرحلات القديمة. ثم انشغل بتعلم كيفية القتال، والنضج المبكر. ومن العاشرة الى الخامسة عشرة لم يذق الشراب الا في ما ندر، لكنه ظل على اتصال مع الشاربين واماكن الشرب. فكل الطرق كانت تؤدي الى المشرب، وألوف من قصص الغرام والمغامرات تجتمع معا فيه، لتتسرب الى العالم الخارجي كله. وفيه تبدت الحياة مختلفة، حيث الرجال يتحدثون بأصوات عالية، والمراسلون والمحررون والمحامون والقضاة يضعون ختم الموافقة الاجتماعية على شرعيتها. في تلك المرحلة، قليلا ما فكر المراهق في اساس العالم الرجولي الجامح المتورط في الكحول، ونادرا ما استطاع ادراك الكدح المنهك والحزن الموهن الذي يتوارى خلف الادمان المزمن. عمل لساعات طويلة في معمل للتعليب، جعلته يتساءل عن مغزى الحياة كبهيمة عمل. ثم همست الرومنطيقية بالمغامرة، فدخل في صداقة حميمية ملتهبة مع قراصنة محار، رفضوا ان يكونوا عبيدا للروتين التافه. في صحبتهم شرب بتحدٍّ، وارتكب كل الاشياء الممنوعة. وكان تطوره الى سكير كبير وسط قراصنة المحار، مترافقا بإحساس بالتفسخ وشعور قديم بالإدانة في الخطيئة. لكن الشرب الكبير الحقيقي جاء نتيجة اقتناع فكري رافق النهم المتزايد للحياة.
استوعب درس الموت اختناقا في السابعة عشرة، فتأكد له مآل الحياة التدميرية التي يخبئها لأتباعه المتحمسين. عاد إلى قراءة الكتب بفهم أعظم، مطورا امكانات غير معروفة ومقلقة. ثم انجز فكرة اخرى من خلال التشرد في ارجاء الولايات المتحدة الأميركية، وتمكن من مشاهدة عمل الالة، ورؤية دواليب الماكينة الاجتماعية وهي تدور. وتعلم ان كرامة العمل اليدوي خدعة سوّقها المعلمون والوعّاظ السياسيون، فقرر بيع الذكاء فقط في سوق العمل. وبدأ بتعلم مهنة الكاتب مواصلا الدراسة والعمل في مهن مختلفة. ومع الاستنزاف العقلي الكلي، برز تجلٍّ جديد ومختلف لقدرته. فالذهن الذي انهكه الافراط في العمل اراد ان ينسى، ولم تكن هناك حاجة جسدية للكحول بل رغبة عقلية محضة. ومع ارتفاع مستوى المعيشة إثر توالي النجاحات الأدبية، اتخذ الشرب سمة المخالطة الاجتماعية. ثم أتى وباء التشاؤم المقترن بالضجر والسأم، وفقدت لعبة العلاقة الاجتماعية سحرها، فهجر حياة المدن وبدأ الشرب بانتظام وحيدا.
كانت الحياة لجاك لندن اغنية واحدة لا تنتهي، فواصل كتابة روايات ناجحة، وكسب نقودا اكثر بسعي اقل، وفاز بحب المرأة المقنع، ولم يعرف الحزن وخيبة الامل والندم من البداية حتى النهاية. وحين بلغ أعتاب التخمة العقلية، استسلم كليا لغواية جون بارليكورن بعد ربع قرن من المقاومة الجسدية العنيدة. فازداد تعوّد ذهنه على التوثب والحيوية بسبل اصطناعية، وبات استحضار نشوة الحياة الجامحة مأثرة العقل المترف.

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم