الجمعة - 19 نيسان 2024

إعلان

الفراغ والانتحار

مصطفى علي الجوزو
A+ A-

لا أعني بالفراغ خلو سدة الرئاسة، فقد احتاط الدستور، كما بات معروفاً، لذلك الخلو. وليس الاحتياط اختراعاً لبنانياً، فكل الدول تمارسه بنصوص تحفظ استمرار الحياة الدستورية والديموقراطية، وتحقق المصلحة الوطنية. وما بعض التأويلات الطائفية للمادة 62 من الدستور إلا جدل بيزنطي لا سند له، ولا شبيه له في العالم.


الحكم لا بد من أن يستمر بكامل أهليته ونشاطه وبصلاحيات حكومية غير منقوصة، ريثما ينتخب رئيس جديد للبلاد، لأن في ذلك مصلحة للأمة؛ علماً أن الدستور يخوّل مجلس الوزراء، حتى مع وجود رئيس الجمهورية، اتخاذ قرارات أساسية في غيابه؛ فحضوره ظرفيّ وليس أساسياً، ولا صوت له؛ ويستمر هذا الحق اليوم لمجلس الوزراء، وينبغي له أن يتصرف وكأن الرئيس غائب عن الجلسات، وأن يقوم مقامه في الأمور الأخرى التي تختص به ابتداء ولا صلة لها بمجلس الوزراء إلا بصورة لاحقة، أحياناً، كإصدار المراسيم وطلب نشرها، الخ.
أنا لا أعني ذلك الفراغ الصوريّ، إذن، بل أعني الفراغ الحقيقي الناشئ عن بنية الدولة اللبنانية، الذي من تجلياته الطبيعية ذلك الفراغ الصوريّ. إن مصطلح الدولة اللبنانية مصطلح مجازي، يراد به ما يرجى أن يكون وليس ما هو كائن فعلاً. فليس من دولة حقيقية في العالم ينشئ فيها أحد الأحزاب جيشاً أقوى من جيشها ويرسله رغم أنفها ليحارب في دولة أخرى؛ ويحتل الرؤساء الدينيون فيها منزلة ونفوذاً سياسيين يفوقان منزلة الرؤساء المدنيين ونفوذهم؛ ويذهب رئيس طائفة دينية فيها إلى بلد عدو غير عابئ بالنصوص الدستورية والقانونية؛ ويصرّح أحد نوابها بكل جرأة أنه وحزبه كانوا على علاقة بالعدو، وأنهم لا يخجلون بذلك؛ وتباع عاصمتها التاريخية لشركة عقارية؛ ويستغل مسؤولوها نفوذهم ليحتلوا هم أو أتباعهم وشركاؤهم أملاكها العامة؛ ويدخل فيها المسؤول فقيراً أو متوسط الحال، ويثري أثناء الحكم؛ وتفرغ خزانتها لتمتلئ خزائن المصارف من الفوائد الظالمة التي تفرضها الدولة على نفسها لقاء الديون التي اقترضتها من تلك المصارف، بحيث يهدد الدين العام الدولة بالإفلاس؛ وتهمل فيها الحكومة دهراً تعيين موظفين جدد مكان المتقاعدين، وتعيين عمداء لكليات الجامعة الوطنية ومعاهدها، لخلافات طائفية وفئوية، أو متابعة لذلك المشروع الذي بدأته إحدى الحكومات والقاضي بإلغاء الملاك الدائم في الدولة والتعويل على التعاقد حتى في المؤسسات الأمنية، ومحاولة تخصيص المرافق، حتى الأمني منها؛ ويُعبث فيها بالدستور بحيث يعدَّل وفاقاً لإرادة خارجية أو لمزاج قوى داخلية، سواء لانتخاب رئيس للدولة أو للتمديد له، أو التمديد للمجلس نفسه، ويفضي ذلك إلى الفراغ غالباً، أو انقسام الدولة اللبنانية شطرين أو شطوراً؛ ولا يكتفي فيها المجلس بالتدخل في الشؤون القضائية، بل يجعل نفسه محكمة جزائية تلغي أحكاماً قضائية مبرمة.
الفساد شائعة، والقضية هي بنية الحكم السياسية غير القابلة للحياة الصحية، الحاضنة لكل الأمراض والأوبئة السياسية والأخلاقية. والفراغ فراغٌ من معنى الدولة والنظام، لا شيء طارئ.
دعُونا مما سمي دولة لبنان الكبير وقيامه على معادلات لا نتيجة لها إلا النزاع الطائفي المستمر، ونشوء كيانات طائفية أقوى من الدولة، يتكافل فيها المتسلطون عليها، ولننظر إلى الواقع الحالي نظرة براغماتية.
في لبنان زعماء كبار لكل منهم ميليشيا شعبية منظمة، أو غير منظمة (قبائل أو عشائر أو أسر أو بلدات، الخ)، وميليشيات رسمية (أجهزة وشخصيات أمنية)، وأتباع في المجلس والحكومة والمؤسسات العامة والخاصة الفاعلة، لدرجة أن بعض الأحزاب الميليشية يراقب حتى مراسلاتك الألكترونية، وهذا كله يجعل أي محاولة إصلاح ضرباً من الخيال. قد تخرج مظاهرة، وتُكتب مقالة، ويصدر تصريح عن هذا المسؤول أو ذاك، لكن الأثر لا يبقى إلا هنيهة ويتابع إطار اللادولة دورانه بنشاط. لقد تعطلت القدرة على الاعتراض الفعلي، حتى في الصحافة أحياناً. وقد تكون معقابة المعترضين قاسية، وقد تنغص عليهم حياتهم وأعمالهم، وقد لا يجد أحدهم عملاً وحماية إلا باللجوء إلى أحد الزعماء أو مهادنته على الأقل. والحياة النقابية معطلة، تقريباً، أو غير فاعلة، للسبب نفسه؛ والحياة الحزبية، خارج هذا السياق، غائبة.
قد يقال: ولكن ألاترى إلى ما تقوم به هيئة التنسيق النقابية؟ بلى، ويكاد يكون الظاهرة الإيجابية الوحيدة في ذلك الليل. وأرجو ألا يكون من بواعث نجاحه تأييد عدد من الزعماء له، وألا يكون أولئك الزعماء قادرين على خفض صوته ساعة يرون ذلك ضرورياً؛ فالتجربة قد علمتنا أن كثيراً من الحراك النقابي الذي قام في الماضي ولا يقل عن هذا أهمية، قد بدأ واعداً، ثم حار قادته كيف يخرجون منه ويحفظوا ماء وجههم.
إن هذه البنية تمنع أي تغيير، ولا تسمح بغير الصدامات الكلامية أو المسلحة بين المجموعات التي يقودها أولئك الزعماء، وبغير تكتل تلك المجموعات في أحلاف ترتدي غالباً اللبوس الطائفي، لأن الدولة المزعومة قامت أساساً على إيديولوجية طائفية، ولأن معظم أولئك الزعماء زعماء طوائف، يتحاشون إلغاء الطائفية السياسية حتى لا يلغوا أنفسهم. ومع أنهم يعرفون الويلات التي جر إليها هذا النظام الطائفي المصطنع، فإنهم متمسكون به، موغلون في ترسيخه، وبلغوا به حتى المهجر؛ وبعض هؤلاء يدْعون مع ذلك إلى الإصلاح ومحاربة الفساد، لكن كمن يشيد فوق بناء متهالك، ثم يدعو إلى ترميم داخل البناء.
هل نيأس؟ اليأس مشروع في هذه الحالة، ولنعترف بذلك، وتحلُّل لبنان أمر غير مستبعد، وقد بدأت بوادره تظهر، ليس بخلو سدة الرئاسة فحسب، بل بالخلو الإداري والأكاديمي، ومطالبة بعضهم بالفيدرالية صراحة، أو تحت تسمية اللامركزية الإدارية الموسعة، ومحاولة تخصيص الإدارة الرسمية، وغير ذلك من مشاريع، في بلد لا يحتمل أن يكون في مجموعه كله دولة حقيقية، ويخضع غالباً لإرادات الخارج، فكيف ببعضه؟ وليس هناك غير أمل سرابيّ، هو أن يفرض التطور التاريخي تبديل الحال في لبنان نحو الأفضل. سرابيّ، لأنّ مصلحة القوى الاستعمارية والصهيونية تقضي ببقاء البلد ضعيفاً ممزقاً، ولأن كثيراً من الزعماء مرتبط بتلك القوى.
وأمل آخر أكثر سرابيّة من الأول، هو أن يرجع الزعماء إلى ضمائرهم، فيعيدوا المال الذي سرقوه من الدولة بحيل قانونية، وباستغلال النفوذ، ويرفعوا أيديهم عن عقارات الدولة التي احتلوها أو اشتروها أو استأجروها بغير وجه حق، ويحلّوا الميليشيات التي أنشأوها بإزاء الدولة أو في داخل إداراتها ومؤسساتها الأمنية، ويوقفوا استعمال نفوذهم في تعيين الموظفين المدنيين والأمنيين وإجراء الصفقات المختلفة، أي يقرروا بناء الدولة. وهي لا تبنى بالطائفية، وليس من نظام طائفي معلن في العالم كله إلا في لبنان وفي دولة العدو العنصرية، بل تبنى بنظام مدني شامل، ليس في الزواج المدني كما يوهمنا بعضهم ، بل في النظام السياسي والاجتماعي والقضائي والتربوي جميعاً، على أن يكون من حق من يريد اختيار الأحوال الشخصية الدينية أن يمارس ذلك. وعلى المتدينين أن ينزلوا عن رؤيتهم العقدية المتشددة في هذا الشأن، لأنه إذا كان الخيار بين النظام المدني في دولة وبين الرؤية الدينية في اللادولة، فالمختار هو الدولة، ومنع ولادة الدولة انتحار، يندم عليه، ليس جمهور الفقراء والمتوسطي الحال والمضطهدين فحسب، بل حتى الذين امتلأت جيوبهم من المال غير المشروع.


أستاذ جامعي

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم