الخميس - 25 نيسان 2024

إعلان

عندما تستحضر نايلة... جدّها

A+ A-

عندما تجلس مع نايلة تويني، تشعر بطريقة غير اعتياديّة، بأن ثمّة أطيافاً ترافقها: جبران من اليمين، وغسان من اليسار... ويروي المقرّبون من الحفيدة البكر، أن علاقة نايلة بجدّها كانت تحيّرهم في الفترة الأخيرة، فهم كانوا يخشون الحديث عنه أمامها كي لا يضاعفوا حزنها، وفي الوقت نفسه يلمسون بريقاً مختلفاً في عينيّها، حين تتحدث هي عنه.


أن يكون غسان تويني الجدّ الرؤوف والحنون مع نايلة، لم يمنعها من رؤية الرمز الوطني الكبير فيه. كانت دائماً تستطيع أن تراه بعين اسشتفّت عظمته من ثقافته الواسعة وقدرته الفائقة والخارقة على تحدّي أقسى أنواع العذابات والمصائب... ففي شارع الحمراء، في "الطابق التاسع" من المبنى القديم لجريدة "النهار" تحديداً، كانت تتمّ صناعة الرؤساء والوزراء والنواب، وكانت نايلة تقدّر ذلك كثيراً، وتعلم يقيناً أنّ لجدها قدرة ونفوذاً فريدين، وأنّ لجريدته موقعها المؤثّر.


والمقربون منها يعرفون جيداً عمق العلاقة التي ربطت الجدّ بحفيدته، فكانت تجمعه بها علاقة استثنائيّة فريدة. كان يراهن عليها ويخطّط كي تتسلّم الأمانة يوماً ما. كان ذلك واضحاً من خلال عمله جاهداً على صقل شخصيّتها ومحاولة تنمية الحسّ الثقافي والنقدي لديها. ففي الصغر لم يكن ثمّة ألعاب، بل مسابقات ثقافيّة وألغاز تتعلّق بلوحات وأفكار فنيّة وقصص ثقافيّة. من هنا، يمكن فهم تعلّقها بالفنون وشغفها أيضاً بالأيقونات... كانا يجلسان على السرير ويلتقطان الكثير من الصور، ويعيدان إلتقاط المشهد نفسه عشرات المرّات... كان يُسمعها الكثير من الموسيقى: من الكلاسيكيّة إلى أعمال المغنيّة اليونانيّة Nana Mouskouri ، وكان يحثّها على حضور المعارض والمسارح والأوبرا. وفي السفر، اختبرت معه ليس الجانب السياحي فحسب، بل الجانب الثقافي من خلال تعرّفها الى المتاحف العالميّة والمعالم الأثريّة والثقافيّة في كل بلد زارته... وشوارع سان بطرسبورج شاهدة على ذلك.


منذ صغرها إذاً، كانت تشعر بالفخر والاعتزاز أن تكون حفيدة غسان تويني. تتذكر جيداً كيف كان يقصد مدرستها لحضور حفل نهاية العام الدراسي. كما كانت تفرح كثيراً عندما كانوا يذهبون في رحلة ثقافيّة من المدرسة لزيارة مطابع جريدة "النهار" في الحمراء. وهو بدوره تعلّق كثيراً بها، هي التي وُلدت بعد مضي شهرين على وفاة جدّتها ناديا، فكانت الفتاة الوحيدة في العائلة، وفي منزل يفتقر الى العنصر الأنثوي، وفي أمسّ الحاجة الى الفرح.


كان الجدّ يرغب في أن يرى أولى حفيداته تكبر سريعاً كي يشبع منها قبل أن يغادر ربما، وكي يطمئنّ الى أن الأمانة بعد جبران ستكون في عهدتها. أما هي، فكانت تهرب من بين والديها وتهرع اليه حين يكون جالساً مع كأس الويسكي، فيعطيها جرعة من الـ"البوسكي"، كما كانت تسميها، وهي مختبئة تحت الطاولة. ويعلم الجميع أنه كان إنساناً طيّباً وحنوناً مع عائلته، لكنه أيضاً كان حازماً مع نايلة لاسيما في ما يتعلّق بدراستها، ولكي تكون على قدر الرهان. لا تنسى أنه أهداها كتابه "سرّ المهنة وأسرار أخرى"، علماً أنها لم تدرك جيداً حجم هذا الإهداء إلاّ بعد استشهاد جبران، فإكتشفت بعض الأسرار وكانت تدرك أن أسراراً أخرى تغيب عنها والكثير غيرها يخبئها لها القدر، لكنها لم تكن تدري أنها ستكون على هذا القدر من الوجع والألم!


نايلة تويني لا تتحدث عن ذكريات مع جدّها، بل عن تجربة معجونة ومجبولة بالفرح والخبرة والتحدي والصمود... و المأساة أيضاً. تتذكره ضاحكة وتعتبره مثال القوّة والصبر، ولا تستطيع أن تنسى يوم استشهد والدها جبران. ففي عزّ شعورها بأنها على شفير الانهيار، فوجئت بجدّها واقفاً يطلب الصفح لمن قتل ابنه، فأدركت أن تلك القوّة لا تزال موجودة فيه، واستوعبت آنذاك أن غسان تويني حمّلها إرثاً كبيراً على أكتافها. يومها، كانت تطلب من الله أن يلهمها القوّة والتماسك من أجل جدّها، لكن هذه القوّة خانتها.


المقرّبون منها يعلمون أنها تعايشت مع الموت وكبرت معه. لكنها اليوم، بعد فقدان جدّها، فقدت الدفء والدعم. أما الدموع التي انهمرت من عينيها يوم تشييعه، فكانت تعبّر عن الحزن والشوق، لأنها كانت تتمنى لو بقي معها مدة أطول لتتعلّم منه أكثر وخصوصاً مع زيادة مسؤولياتها. وهي ستظل تتذكر تلك القصة التي يرددها باستمرار زوجها مالك حين صعد إلى بيت مري ليطلب بركة الجد قبيل الإقدام على خطوة الزواج، فكانت إجابة الأخير مقتضبة وحازمة: "إذا أنتما أتخذتما القرار، فلا يمكنني إلا مباركة هذا الزواج".


في غياب غسان تويني، لا شك في أن نايلة ستُعيد اكتشافه، إنما هذه المرة من خلال إعادة قراءة كتاباته وما تركه من إرث ثقافي ووطني.

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم