الأربعاء - 17 نيسان 2024

إعلان

هل تنتهي الرغبة حقاً؟

فوزي يمّين
A+ A-

بصراحة لم يكن يعنينا المونديال. أصلاً لم يكن يعنينا شيء في تلك المرحلة من العمر، إلاّ ركل الكرة في الحارات الصغيرة الترابيّة المزروكة في مساحاتها الخجولة، التي كانت تثير فينا هيجان اللعب عن غير قصد.


في الحارة
حارات ضيّقة كالشورتات التي كنا نلبسها، ونفتخر بها على أساس أنّها على الموضة. نشتريها من محل الياس جورج، رحمه الله، محاولين قدر الإمكان أن تتناسب ألوانها مع القمصان التي كانت تستمرّ رائحة طبعة البويا على ظهرها لأيّام وأسابيع بعد ارتدائها. رائحة البويا تلك، كانت تهبّ مع الهواء كلما ركضنا، وتجلس في أنوفنا كلما ارتحنا قليلاً. لم يكن هناك الكثير من التلفزيونات في الحارة، لكنّنا كنّا نمتلك واحداً في بيتنا. نتجمّع، رفاقي في اللعب وأنا، بشكل عشوائيّ في الصالون الصغير. بعد نهار طويل من اللعب المتواصل، وبأجسادنا النحيلة المتعرّقة، نلتفّ لصق بعضنا كأكياس نايلون رطبة. بعض منّا على الكنبات، آخرون على السجّادة، رؤوساً على أعقاب، وأعقاباً على رؤوس، لكن "البيت الضيّق يتّسع لألف محبّ"، تقول أمّي، وأبي يدخّن. كانت هناك محطّة رياضيّة واحدة، "ترانستيل"، تنقل الدوري الألمانيّ لا غير. لذلك ربّما تعلّقنا بالألمان مبكراً. ثمّ لأنّنا لم نكن قد بلغنا العاشرة من العمر حين فازت ألمانيا على هولندا في المباراة النهائيّة بكأس العالم سنة 1974، بهدف قاتل لغيرد مولر، الذي لا أحد يدري كيف التفّ على نفسه وسدّد الكرة خفيفة على مرأى من جميع اللاعبين من دون أن يتحرّك أحد منهم. كأنّه رشّ شيئاً في أعينهم، وقطع أنفاسهم، فبقوا جامدين يتفرّجون على الكرة تتدحرج ببطء شديد، وتدخل مرماهم، وتنتزع منهم حلمهم بكأس العالم. هكذا انتكس كرويف وفاز باكنباور، ونحن غمرتنا موجة من الفرح الشديد لم نستطع التعبير عنها كثيراً لصغر سنّنا، لكن بدأنا شيئاً فشيئاً، وسنة تلو سنة، بتعليق صور اللاعبين الألمان فوق ألواح أسرّتنا من جهة الرأس، وفوق درفات الخزانة التي لشدّة الصور الملصقة عليها لم يعد معروفاً لونها الأصليّ مع الوقت. تبدّدت أحلام الهولنديّين بشكل مأسويّ في ذلك المونديال، غير أنّ طريقة لعبهم الساحرة بقيت محفورة ليس في ذاكرتنا الصغيرة فحسب، بل في ذاكرة تاريخ كرة القدم في العالم. وبدأ بعض اللاعبين في الحارة يقلّدون طريقتهم "الشموليّة" في اللعب، كما سُمّيت يومها، حيث يهاجم المدافع ويدافع المهاجم، وبدأت القمصان البرتقاليّة الباهرة اللون والقماش تجتاح السوق المحلّي، وتتصدّر واجهات المحال الرياضيّة، إلى جانب الكثير من قمصان المنتخبات الأخرى.


فيديو VHS
كنت أشجّع الألمان علناً، وأدافع عنهم في المحافل الرياضيّة، لكنّي أخفي ولعاً سرّياً بالهولنديّين لم أبح به لأحد. لا أدري كيف حصلتُ، بعد ذلك بسنوات، على كاسيت فيديو VHS لتلك المباراة النهائيّة الشهيرة، بين هولندا وألمانيا. بقي في غرفتي ردحاً من الزمن حتّى أصابه التلف. كلّ أسبوع تقريباً، تستبدّ بي رغبة جامحة في مشاهدته. أسحبه من غلافه الكرتون السميك، أضعه في ماكينة الفيديو، أتمدّد على الكنبة المقابلة للتلفزيون وأتفرّج. بالطبع كنت أعرف النتيجة مسبقاً، وبالرغم من ذلك أتوقّع العكس. تبدأ المباراة على شاشة التلفزيون، فأخوض وحدي مباراتي الداخليّة، مسروراً، متخيّلاً في رأسي فوز الهولنديّن غير المتوقّع. الريموت كونترول في يدي، أتحكّم بالمباراة كما أشاء. أسرّع الشريط إلى الوراء Rewind، إلى الهدف الهولنديّ الأوّل الذي سجّله كرويف في الدقائق الأولى من المباراة إثر ضربة جزاء ارتُكبت في حقّه، ثمّ أسرّعه إلى الأمام Forward، متخطّياً هدفَي الألمان، خصوصاً هدف غيرد مولر القاتل، فيخسر بذلك الألمان، ويربح الهولنديّون. بقيتُ على هذه الحال لأشهر طوال، أشاهد المباراة المسجّلة نفسها مراراً وتكراراً، أردّ الشريط وأقدّمه، وفي أغلب الأوقات توقظني أمّي والريموت في يدي، بعد أن يكون قد اجتاحني النعاس فوق تلك الكنبة السحريّة التي لم يكن أحد من أفراد عائلتي يتمدّد فوقها طلباً للراحة إلاّ ويأخذه نوم عميق. هكذا استمررتُ في إخفاء ولعي بالهولنديّين. أنا على الكنبة، وأمّي في المطبخ، والمباراة تُعاد أسبوعاً تلو أسبوع، وشهراً تلو شهر. شيء من الإدمان سيطر عليَّ، لم أستطع أن أتخلّص منه، ولا أن أجد له منفذاً. على هذه الوتيرة، كان الشريط قد بدأ يصيبه التلف، وألوانه تبهت تدريجيّاً، وصورته تتقلّب راسمةً على الشاشة خطوطاً أفقيّة ملتوية كأجساد راقصات نحيلات. حتّى أنّ خشّة خفيفة صارت ترافق صوت الشريط، فيأخذ بالمتفرّج ظنٌّ بأنّ المباراة تجري عند ضفّة نهر. والحال هذه، لم أعد ألمح، وأنا متمدّد على الكنبة، سوى الألوان البيضاء للمنتخب الألماني، والبرتقاليّة للمنتخب الهولنديّ، وقد تحوّل اللاّعبون إلى ما يشبه أطيافاً أثيريّة، ملامحهم غائرة وقاماتهم ممغوطة. لكنّي بقيتُ، بالرغم من ذلك كله، أستطيع تمييز قامة بكنباور وهو يلاعب الكرة بأناقة عالية وصرامة مشدودة، ويمشي بها برأس مرفوع عنها، وقامة كرويف وهو يراوغ برشاقة مدهشة، ويطير فوق الخصم كريشة، وينقر الكرة كالديك.


من وراء زجاج الحافلة
كان كرويف ديكاً هولنديّاً بامتياز. لكن ديك كتّور، جارتنا في الحارة، كان ديكاً بلديّاً يثير الخوف في نفوسنا. يغافلنا باستمرار أثناء اللعب، وينقرنا. إلى أن قرّرنا التخلّص منه. بعد أن أبرحناه ضرباً حتى الموت بمورينات خشب كنّا قد جررناها من ورشة قريبة، لففنا عنقه بكرافات عريضة وسميكة، وشنقناه على أحد أغصان التينة المتاخمة لبيت كتّور. كنّا مجموعة من الأولاد الفائرين، نتخابط لنسجّل هدفاً في المرمى المؤلّف من ثلاثة مضلّعات في السور الحديد للسرايا الحكوميّة المجاورة التي كان ملعبنا ينتهي عند حدودها. ذات يوم، أطلّ علينا شابّ أكبر سنّاً منّا، اتّكأ على حائط حجر، وشرع يتفرّج علينا. ثمّ غادر من دون أن يتفوّة بكلمة. علمنا في ما بعد أنّه من أفضل اللاعبين في نادي بلدتنا، أسند إليه المدرّب مهمّة الكشّاف الذي يزور الحارات بعد الظهر حين يكون الأولاد قد أنهوا دروسهم، ليستكشف المواهب الطالعة، ويختار منها من يجده مناسباً ومؤهّلاً لتحقيق نتيجة في المستقبل. وقيل إنّه لم يكن يخطىء في خياراته، لما يتمتّع به من حدس كرويّ جعله قادراً على اشتمام رائحة النجاح في اللاعب، فقط من خلال وقفته ومشيته بالكرة. إختارني أنا، وخمسة لاعبين. انتقلنا من الحارة الصغيرة إلى الملعب الكبير. من غير تردّد مشينا، ولم نكن نعلم حينها أنّ مشوارنا مع الكرة سيكون طويلاً أكثر ممّا كان يتصوّره أحد منّا. زوّدونا كلّ عدّة اللعب، من قمصان وشورتات وجوارب طويلة وحقيبة كبيرة. أدخلونا في صفوف منتظمة. زرعوا فينا المواظبة على التمرين، وتحمّل المشقّات، والقدرة على التأقلم، وشدّ العصبيّة المحلّية. فصرنا نلعب مع الفريق في بطولاته، على أرضه وخارجها، كأننّا ندافع عن بلدتنا، بأجسام صلبة وعيون ينبعث منها الشرر. فعلاً، تعرّفتُ إلى لبنان من وراء زجاج الحافلة التي كانت تقلّنا كلّ أسبوعين تقريباً إلى مختلف المناطق اللبنانيّة للمشاركة في مسابقات الدوري والكأس. اكتشفتُ طرابلس، وبيروت (شرقيّة وغربيّة آنذاك)، وصور، وصيدا، وبعلبك، والناعمة، والبدّاوي، وجبل محسن. واستطعتُ السفر إلى سوريا والأردن وأوستراليا ويوغوسلافيا وكوريا الجنوبيّة... ولم أكتشف الأماكن فحسب، بل أيضاً لاعبين من مختلف الأديان والمشارب. كالسائح كنتُ، أجهّز حقيبتي كلّ أحد للانطلاق. نذهب صباحاً ولا نعود أحياناً إلاّ آخر الليل. تدفعنا حماسة لم نعرف لها مصدراً، وتستبدّ بنا رغبة جارفة لا حدود لها. ربّما هي الرغبة في الخروج من الحدود الضيّقة التي كنّا نحيا ضمنها. ربّما كانت لعبة كرة القدم هي السبيل الوحيد المتاح لنا للسفر وتحقيق الأحلام. تمنحنا شرنقة، نقطة استدلال وموقعاً لنا في العالم. وكانت نتائج المباريات التي نخوضها تحدّد وجودنا، وتؤكّد توازننا، وتغذّي هواجسنا.


ضربة حرّة ضربة جزاء
الضربة الحرّة استهوتني كثيراً. الفري كيك، برنّتها الانكليزيّة. كنتُ أخصّص لها حصّة من الوقت، قبل التمرين وبعده. مقلّداً اللاعب الفرنسيّ الشهير ميشال بلاتيني المختصّ بتسديدها، من فيلم عنه، آخذ معي مجموعة من الكرات، أجمعها على حدود منطقة المربّع الكبير للملعب، أصفّها بشكل أفقيّ بحيث تتساوى الفراغات بينها، ثمّ أتراجع إلى الوراء بضع خطوات، وأبدأ بتسديدها تتالياً، تارة نحو الزاوية اليمنى للحارس، وطوراً نحو اليسرى، محاولاً قدر الإمكان أن أقصّ الكرة بباطن قدمي، أشحفها شحفاً، كيما تفتل في الهواء وتستدير بشكل مائل، فتشكّل مساراً مقوّساً قبل سقوطها في المرمى. كانوا يسمّونها "موزة". لكنّ هذه التسمية لم تعجبني يوماً، إذ كنت أجدها رخيصة. وكان البعض يشبّهونها بعلم الحساب، وخصوصاً علم المثلّثات (Trigonometrie)، لما فيها من زوايا، وتجاويف، وخطوط مقوّسة، وكلّ ما له علاقة بما يُسمّى ظلّ الزاوية أو المماسّ المنحني (Tangeante)، والجيب (Sinus)، وجيب التمام (Cosinus). ويدعمون تشبيههم هذا بالتماثل اللفظيّ بين رياضة كرة القدم وعلم الرياضيّات، إذ في الاثنين كلمة "رياضة". غير أنّي لم أستسغ هذه المقاربة أيضاً. بل كنت أعتبر أنّ للضربة الحرّة علاقة خفيّة بأنوثة الفتيات الجميلات، فيحلو لي، وأنا أشاهدها أو أسدّدها، أن أتذكّر أطراف خصورهنّ النحيلة، وتقوّس أردافهنّ الممشوقة، واستدارة نهودهنّ الصغيرة. لذلك كانت تجلب لي السرور والبهجة، وتمنحني نظرات حالمة وغائمة. وكان أصدقائي يتنبّهون أحياناً لهذه المشاعر التي تنتابني جرّاءها، دون معرفتهم بمصدرها، ويبادرون إلى مساءلتي حولها، فأكتفي بالابتسام الخفيف والعابر لهم.
ضربة الجزاء كانت الأكثر حسماً واستحقاقاً، والكفيلة فوز الفريق أو خسارته، حتّى بات يُقال إنّه إذا ما أهدر فريق ضربة جزاء فلا بدّ سيخسر. أشبه بالاعتراف الأخير، والبوح المرير. اختبار صعب جداً للاعب الذي يتهيّأ لتسديدها، وللحارس الذي يستعدّ لصدّها. ما إن تحصل ضربة الجزاء حتّى يسود الملعب صمت فظيع، وتنشدّ العيون إلى المربّع الصغير، وتحديداً إلى الدائرة البيضاء الصغيرة التي تربض فوقها الكرة. أين سيسدّد اللاعب؟ وفي أيّ اتّجاه سيتحرّك الحارس؟ يحاول حارس المرمى تقدير الزاوية التي يبغي اللاعب التسديد نحوها. إن كان الحارس يعرف المهاجم مسبقاً، من مباريات سابقة، فهو يدرك أيّ زاوية يختار عادة. ولكن ربّما يفقه المهاجم المنطق الذي يفكّر فيه الحارس. يتابع الحارس تقديراته، ويعتبر أنّ المهاجم سيسدّد هذه المرّة في الاتّجاه المعاكس كي يخدعه. ولكن ماذا لو كان المهاجم أيضاً يتبع منطق الحارس، ويتهيّأ للتسديد نحو الزاوية المعتادة؟ وهكذا تباعاً... إلى أن ينطلق المهاجم للتسديد. لكن قبل التسديد، ومن دون تعمّد، يحدّد الحارس بحسّه الزاوية حيث يريد الإرتماء، وفي استطاعة المهاجم حينها التسديد بهدوء وبرودة أعصاب نحو الزاوية الأخرى. في استطاعة الحارس أيضاً أن يحاول فتح قفل الباب بقشّة، فيترك زاوية مفتوحة أكثر من غيرها، أو يبادر إلى التحرّك نحو زاوية ثمّ وبسرعة يتحرّك نحو الأخرى. وفي استطاعة اللاعب أيضاً أن لا يدع الحارس يوهمه بتلك التحرّكات. أخيراً، ينطلق المهاجم. يبقى الحارس جامداً. يسدّدها المهاجم بين ذراعيه.


من آمن بي وإن خسر فسيربح
عادةً ينقسم المشّجعون. كلّ فريق منهم يتبع الفريق الذي يشجّعه. يشاهدون المباراة معا، فتأخذ بهم الموجة نفسها، ويتفادون بذلك بحراً واسعاً من التزريكات والنكايات أثناء المشاهدة. طالما تساءلتُ حول انتماء المشجّعين إلى منتخب دون آخر. من الطبيعيّ والمعروف أنّ القسم الأكبر يشجّع الأقوى، الذي فاز بكأس العالم أكثر المرّات، كالبرازيل وألمانيا وإيطاليا.. أو أنّ كلّ جيل يتبع المنتخب الأقوى في زمنه، وخصوصاً في ريعانه، كإسبانيا في الأمس القريب... أو أنّ لاعباً واحداً كبيراً، كبيليه أو باكنباور أو كرويف أو مارادونا أو زيدان أو ميسي، يجرّ معه مجموعة من المشجّعين إلى تشجيع المنتخب المنتمي إليه. أو يشجّع البعض البرازيل بسبب هجرتنا القديمة إليها، وألمانيا بسبب تجارة السيّارات، وفرنسا بسبب الفرنكوفونيّة، وإيطاليا بسبب شبابها الوسيمين. في كلّ الأحوال، يبقى المشجّع مشجعاً، كيفما كان انتماؤه. فهو إن فاز، خرج بعد المباراة إلى المقاهي والساحات، متباهياً، ونافخاً بريشه، وسائلاً بصوت عال لا يقبل الشكّ: "هل يودّ أحد قول شيء؟". بينما إن خسر، مكث في البيت حتّى تزول آثار الخسارة قليلاً، ويطفئ جهازه الخليويّ أو على الأقلّ يضعه صامتاً، ويسحب فيشة الهاتف الثابت في البيت. يخبرون عن أحد المتعصّبين للبرازيل أنّه، بعد خسارتها أمام إيطاليا عام 1982، نهض عن كرسيه فور انتهاء المباراة، ودفع تلفزيونه برجله من النافذة، ثمّ انحنى فوقه يشتمه وهو يتشظّى فوق الأرض. نكاية بخسارة البرازيل هذه، وقف مجموعة من مشجّعي ألمانيا على الطريق العام، ووزّعوا المعكرونة والبيتزا على العابرين. في صباح اليوم التالي، وجد الناس ورقة نعي باسم البرازيل على حيطان البلدة، ثمّ بعد الظهر تمّت مراسم الجنازة، فتجوّل موكب من عشرات السيّارات تتوسّطه سيّارة كبيرة وُضع على سطحها تابوت خشب صغير ملفوف بالعلم البرازيليّ. وقد فعل المشجّعون البرازيليّون الشيء نفسه، بعد سنوات، عندما خسرت ألمانيا أمام البرازيل. وقد جاءت ورقة النعي على الشكل الآتي: "من آمن بألمانيا وإن راهن فسيخسر. والدُها: المدرّب بيرتي فوغتس، أبناؤها: اللاعبون، أشقّاؤها: مشجّعو ألمانيا ومناصروها وكلّ من يحنّ إليها، خالتُها: الروح الرياضيّة، بنات عمّها: التمريرات الجميلة... وعائلات لاعبي المنتخب وأقرباؤهم في الوطن والمهجر. بمزيد من الأسف واللّوعة، ينعون إليكم فقيدتهم الغالية المرحومة ألمانيا المنتقلة إلى رحمة البرازيل ليل الأربعاء 25 آذار 1998، متمّمة واجباتها الكرويّة، ويُحتفل بالنحيب والبكاء والعويل لعذاب نفسها الهالكة من غضب البرازيل في ملعب شتوتغارت. تُقبل التعازي طوال أيّام الأسبوع في منازل مشجّعي ألمانيا، وفي الساحات العامّة، حيث تُوزّع السندويشات والمرطّبات رحمة عن روحها الطاهرة، وتُقبل التهاني لمدّة شهر في منازل مشجّعي البرازيل وجميع المقاهي والملاهي ودور السينما، ولنفسها العذاب، ولكم من بعدها الصبر والسلوان. ملاحظة في كعب الصفحة: الرجاء إبدال الأكاليل بالتبرّع للعاطلين عن العمل من مشجّعي ألمانيا في البلدة وهم كُثُر".


بين العضلات والعقل
تحت الشمس الحادّة والرياح الحارّة، بين أمواج البحر الصاخبة وألوان الكرنفالات الفاقعة، تحطّ كأس العالم رحالها هذه السنة جنوب القارّة الأميركية، وتحديداً في البرازيل. مرّة جديدة، تشرئبّ أعناق البشريّة وتصطفق أعلامها المتلوّنة، لتكرّس بطلاً جديداً للعالم، وتقدّسه. من كلّ الحضارات والأعراق والأجناس. فسيفساء غنيّة لا مثيل لها في أيّ مسابقة رياضيّة عالميّة أخرى. اليوم، في زمن العولمة وتفكّك الهويّات، تغدو الأمجاد القديمة شبه منتهية، أو متبقّية في الأرشيف، وقوالب الواجهات الزجاجيّة، وقلوب المشجّعين. فمجدُ فرنسا الحديث صنعه الجزائريّ زيدان، وألمانيا تجنّس أتراكاً، وأوروبا أفارقة، وتقريباً أصبحت المنتخبات ذات مستوى متقارب، ما عدا القليل منها التي تمتلك التاريخ والخبرة والعراقة. حتّى أنّ التعابير الرطينة كهذه تسقط فجأة في الملعب، ولا تعود في الحسبان. منتخبات كبيرة تخسر أمام منتخبات هزيلة.
بعد أربعة وثمانين عاماً على كأس العالم الأولى في الأوروغواي عام 1930، تبقى الكثير من المسائل التي يجب مناقشتها حول لعبة كرة القدم. فهي تارة تشكّل مصدراً للفرح بلا حدود، مانحة بفوزها الانعتاق والانتقال إلى عالم آخر، وطوراً تشكّل مصدراً دائماً للعذاب في ملاعب الأحياء العمّالية حيث تجلس شعوب صموتة لمشاهدة فريق لا يفوز البتة. كما تتحوّل إلى ما يشبه الاحتفاليّة الطقوسيّة، فتذكّر بالقبائل التي كانت تنشد المطر والتراب. وتبدو، في جانب منها، رياضة إيروتيكيّة مثيرة للنشوة، لما لها علاقة بعضلات اللاعبين وسراويلهم الضيّقة وشعورهم الطويلة، فتحوّل بعضهم إلى رموز جنسيّة كممثّلي أفلام السينما ومغنّي الروك، ولما يقول عنها أيضاً المؤرّخون، بأنّه تمّ اختراعها في مدارس القرن التاسع عشر الكبرى، كلعبة جماعيّة لمكافحة النزوات الفرديّة المفترسة ورغبات الإستمناء المميتة. لذلك، وعلى الرغم من تطوّر هذه اللعبة على مختلف المستويات، لا تزال تنطرح الكثير من الجدالات حولها: هل هي طهريّة أم جنسيّة؟ قاسية أم حسّاسة؟ قوميّة أم إشتراكيّة؟ أوروبيّة أم جنوب أميركيّة؟ وهل لا يزال العالم ينقسم، بهذه البساطة، بين رومنطيقيّة أميركا اللاتينيّة، والدراما الجرمانيّة، وغنائيّة أوروبا الشرقيّة، والرجوليّة الإنكليزيّة؟
قليلة هي الثقافة التي تتناول لعبة كرة القدم، إن لم نقل هامشيّة. فالتلفزيون، بنقله المباشر والحيّ، يشكّل وحده ثقافتها الكاملة. خارجه، تتمحور الكتابات بطريقة نقديّة تحليليّة في الجرائد والمجلاّت المختصّة، حول مسائل التكنيك والتكتيك، وأخبار اللاعبين والمدرّبين، وشرح أساليب اللعب، وإظهار نقاط الضعف والقوّة، إلى آخر المستجدّات عن الأندية والمنتخبات. في الأدب، لا نعثر إلاّ على القليل من الكتابات في هذا المجال، عند كتّاب كدوراس، وغاليانو، وكامو، وجيرودو، وهاندكه، وبيكولي. فمارغريت دوراس تعتبر أنّ لعبة كرة القدم لا حقيقة لها، ولا قوانين، ولا ربّ، ولا دين، حيث يتساوى الجميع في الملعب، وهذا ما يجعلها مسألة استثنائيّة، وأمراً مرعباً حقّاً. تعترف أنّها في سفرها، وعلى الرغم من ترجمتها إلى ثلاثين بلداً تقريباً، وجدت الناس يتحدّثون عن كرة القدم أكثر ممّا يتحدّثون عن الأدب. في رأي إدواردو غاليانو أنّ ساقي بريجيت باردو هما أقلّ تأثيراً من ساقي بيليه اللتين أعطتا العالم مجداً لا مثيل له منذ نصف قرن. كما يعترف ألبر كامو أنّ أكثر ما عرفه عن الرجال كان في لعبة كرة القدم. أمّا جان جيرودو فيعتبر أنّ الكرة في الحياة هي أكثر ما يتفلّت من قوانين الحياة نفسها. ويرى بيتر هاندكه أنّ للكرة روحاً، عندما لا تمتلئ بالهواء تكون رخوة وميّتة، ثمّ في اللحظة التي تنتفخ فيها تعود إليها روحها، وتصبح كالميّت الذي بدأ بالتململ. ويتحدّث برنار بيكولي عن وجود أقدار لهذه اللعبة، وثقافات، وتاريخ، ولغة، وميثولوجيا، لتغذية الخياليّ. معتبراً أنّه إذا كان الأهل غالباً ما يشتكون من أخطاء أولادهم في المدرسة، فإنّهم يتحمّسون معهم لكرة القدم، إذ يعتبرون أنّ في استطاعة التلميذ مثلاً أن يتعلّم عن البرازيل، وهو يسبح في بحر جماهيرها في ملعب الماراكانا، أكثر ممّا ينهله من كتاب التاريخ.
شخصيّاً، لعبتُ كرة القدم عشرين سنة تقريباً على نحو محترف. وكانت لديّ رغبة لم أعرف أقوى منها في حياتي. لكنّها الآن انتهت، كما تنتهي جميع الرغبات. شيئاً فشيئاً، اجتاحتني رغبة أخرى، الكتابة. وها إنّي أجد نفسي اليوم أكتب عن لعبة كنتُ أرتجلها بقدميّ كلّما وطئتُ بهما سجّادة الملعب. لكنّي أعترف أنّ إيقاعات تلك اللعبة أثّرت في كتاباتي تأثيراً غير مباشر، وبطريقة لاواعية: التقدّم بالكرة، التوقّف فجأة، الإرتجال، التخطيط، الإعتناء بالتفاصيل، الرؤية الواسعة، التمريرة القاتلة، التسديدة المباغتة، المراوغة الأشبه برقصة... أليست للكتابة رائحة اللعبة فعلاً؟


 

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم