الأربعاء - 24 نيسان 2024

إعلان

سوريا في كانّ: سينما القاتل وسينما القتيل والمخرج الذي يقف بينهما

المصدر: "النهار"
A+ A-

الحرب السورية التي لم يُكتب آخر فصولها بعد، وجدت سفيراً سينمائياً لها في مهرجان كانّ (14 - 25 أيار) من خلال فيلم المخرج السوري اسامة محمد، "ماء الفضة". شريط من "ألف صورة وصورة التقطها ألف سوري وسوري... وأنا"، كما يقول المخرج، عُرض غداة افتتاح المهرجان. "باتشوورك" بصري ينهل من ينبوع الـ"يو تيوب" وما قد نعثر عليه في هذا الموقع من مقاطع فيديو صوّرها ناس مجهولو الهوية. هناك ما هبّ ودبّ في "يو تيوب" من مشاهد قطع رؤوس وتعذيب وانتهاكات للكرامة البشرية. اذا كان نشر مشاهد في الغرب أسبابه محض ترفيهية، فالهدف منه في مناطق الصراعات يختلف: إيصال صورة مغايرة عن تلك التي تنقلها وسائل الاعلام الرسمية المحتكرة للرأي. فما بالك ببلد تحت نظام ديكتاتوري كسوريا يعيش واحداً من أسوأ ظروفه عبر التاريخ. وجدت اللغة تسمية لهواة التصوير هؤلاء: "اليوتيوبيون". يعرضون أنفسهم للخطر وهم يحاولون التصوير. آخرون، يصورون جرائمهم ويسرّبونها. حرب نفسية حيث الكاميرا سلاح الجريمة. هؤلاء، جنود الحروب المجهولون، لا يفقهون شيئاً بتقنيات التصوير وحرفيتها، بيد انهم رفعوا هواتفهم المحمولة وكاميراتهم ذات الصورة الرديئة، ووثّقوا القتل والدمار في الشوارع وعلى مرأى من العالم: نظام يقتل ابناءه وبناته بلا رأفة، وثورة تخرج عن الأهداف التي ولدت من أجلها.


اذا كانت السينما هي معبد الصور، فـ"يوتيوب" جحيمها. في منفاه الباريسي الذي هرب اليه خشية الاعتقال، لا يستطيع المخرج الستيني الكثير. لا بل لا يستطيع فعل أيّ شيء، الا ان يصوّر السماء وأن يمنتج ما يجده على "يو تيوب" من حالات متعددة لنزف (سوري) واحد. من هذا التوتر الحاصل نتيجة وجوده في مكان بعيد من مكان موضوعه، ولد اللقاء الذي يعتمد عليه الفيلم، ليقدم شهادة حية عمّا يحصل في "بلاد البعث" منذ انطلاق الشرارة الاولى للثورة السورية في درعا. وعندما نقول لقاء، نعني به اللقاء بمخرجة كردية شابة اسمها سيماف وئام بدرخان، اتصلت بأسامة محمد عبر الـ"فايسبوك"، تسأله: "ماذا كنت صورتَ لو كنت انت وكاميراتك في حمص في هذه اللحظة؟". الفيلم حكاية هذه المشاركة، هذه المراسلات، هذا الحوار بين الذي في قلب النار والذي على أطرافه. قليلاً قليلاً، تتشكل جوهرة سينمائية سيكون اسمها سيماف، أيّ "ماء الفضة" باللغة الكردية.
لم يلتقِ أسامة محمد بسيماف (35 عاماً) الا في كانّ يوم عرض الفيلم. لم يعلن المهرجان عن اسمها عند اختيار الفيلم، خشية الانعكاسات السلبية عليها في بلادها. بعد الاتفاق الذي رعته الأمم المتحدة بين النظام والمعارضة، استطاعت ان تخرج بدرخان من حمص ومنها طارت الى مطار نيس عبر تركيا. لحظة اختلاط الضوء والعتمة حدثت في الصالة "60"، في حضور حشد من المشاهدين المبهورين بما يرونه، سواء أكانوا مطلعين على المأساة السورية أم لا.
هناك في "ماء الفضة" خليطٌ من الصور والأصوات الجارحة. ما الرابط بين صورة المولود والصبي الذي يجري تعذيبه؟ لا شيء سوى التحريض على التفكير والدعوة الى الانفعال الذي يصيب المرء أصلاً - حتى الذين اعتادوا مشاهدة مقاطع مماثلة على شاشاتهم المحمولة - نتيجة الشرارة التي تلد جراء اللقاء بين ما نراه من جهة وما نسمعه من جهة أخرى، وما بين تشابك الصور نفسها. تعليق المخرج على الصور ليس وصفياً بقدر ما هو اضافة نوعية لما نراه، واحياناً تكملة له. يحملنا الفيلم في دهاليز السينما، من هيروشيما الى غودار، مروراً بكل وسائط الاتصال العصرية: كادر داخل كادر. نسمع صوت المخرج يتشارك معنا بعضاً ممّا جعله ينجز مثل هذا الفيلم: "أنا اسامة محمد، غادرتُ سوريا صباح 9 أيار 2011، يوم النصر على الفاشية. ذاهب الآن الى كانّ، بلا فيلم. أنا الفيلم. سينمائي سوري بألف صورة وصورة. ذاهب بها لأقولها، لأتكلم". آنذاك، جاء أسامة محمد الى مهرجان كانّ، قاطعاً نحو 4000 كم من بلاده، ليلقي فيه محاضرة عن السينما في ظلّ الديكتاتورية. بقية الحكاية معروفة: لن يعود أسامة محمد الى بلاده، آخذاً من باريس ملاذاً جديداً.
هكذا يصف أسامة محمد الحراك الشعبي بداية الثورة: "من بانياس الى درعا مشى السوريون. مشوا الوف الكيلومترات. مشى السوريون أغرب ماراتون في التاريخ. 42 عاماً يرفعون صورة الفرد. اليوم، بدأوا مشيهم المعاكس. مشي ضد مشي. 42 كلم ــ يا للمصادفة ــ هي المسافة بين درعا والقرى المحيطة بها. مشاها أهل القرى ليفكوا الحصار عن الحرية".
يعرض الفيلم صوراً وحشية كثيرة، لكن لا نجد القسوة الا في الكلام والطريقة التي ترمى بها أمامنا الكلمات. لا شكّ ان هناك ما يكفي من صور في سوريا، ماضياً حاضراً ومستقبلاً، لاتمام مئة فيلم. لكن لن يكون لأيٍّ من هذه الأفلام الوقع الذي كان لـ"ماء الفضة"، لأنه ستكون هناك صور اخرى تراكمت فوق تلك الصورة. يعرف اسامة محمد جيداً أن للصورة على الانترنت تاريخ صلاحية، لذا يحشرها في اطار السينما حيث الخلود والراحة الأبدية. يلعب الفيلم ايضاً بإحدى تقنيات البروباغندا: التكرار. يكرر الفيلم عرض مشهد لمعتقل سوري شاب يقبل جزمة الضابط لمرات عدة، ولكن يحصل على نتيجة مختلفة من المتلقي في كل مرة. تعليق المخرج بسيط على هذه الصور الحقيرة: "رأيتُ في الصبي أنا، وقبلتُ معه الحذاء".
استشهد سينمائي شاب وسمعه أسامة محمد يقول: "ليش ما بتصور انت؟ ايه تعا صوّر انت". صوّر اسامة محمد، او بالاحرى اعطى كاميراه لسيماف التي جاءت بالعديد من اللقطات المصورة من مدينة حمص المدمرة، بعدما ظلت محاصرة فيها وعاجزة عن الخروج منها. ما يقدمه اسامة محمد في فيلمه أبعد بكثير من سينما المراسلات الوجدانية. انها سينما القاتل وسينما القتيل ومَن يقف بينهما رادعاً ومندداً وفاضحاً حفل الجنون هذا. هذا عمل يستنبط ألقه من اللقاء بين الرقة والقسوة، من منتهى التعصب ومنتهى الشعر، من قمة الانضباط وقمة الانفلات. يقول أسامة محمد، اللاهث خلف الصور: "صوّر السوريون أطول فيلم في التاريخ: ألف يوم ويوم. أطول جنازة في التاريخ: مئة ألف حياة وحياة. أبحث في الزمن عن الزمن، أبحث عن زمني في الزمن. مَن أنا، مَن هو الزمن؟". خلافاً للكثير من السينمائيين الذين تجعلهم ظروف الحرب ينزلقون في مواقف مماثلة، نجد عند أسامة محمد ايماناً عميقاً بالصورة. هذا الايمان هو الذي يجعله يرتقي بالواقع ويحتفي به سينمائياً على الرغم من بشاعته. بعد هذا كله، يمكن القول ان السوريين لا يحتاجون الى سينما، على الأقل ليسوا في حاجة الى ابتكارها، فهي في كل مكان!

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم