الثلاثاء - 16 نيسان 2024

إعلان

سينما - كانّ 67: وحوش ملائكة وسيّاح بين بين!

A+ A-

الأخوان داردين مرة جديدة في مهرجان كانّ السينمائي (14-25 أيار). سعفتان وجوائز اخرى في جعبتهما من كانّ منذ مشاركتهما الاولى فيه قبل نحو عقدين. العبقريان البلجيكيان لا يزالان وفيين لأساليبهما في السرد والتصوير والتقاط الواقعية: لا مطبات حكائية كبيرة او شعارات او أحداث سطحية، بل واقع نقي يتماهى معه كل شخص. بشفافية مصحوبة ببساطة تكاد تدخل في مسامات البشرة، يصوّر الفيلم حكاية ساندرا المهددة بالفصل من عملها.


ليس لدى ساندرا الا 48 ساعة لتقنع الزملاء بأن يتضامنوا معها ويتنازلوا عن البونوس لقاء احتفاظها بالوظيفة. أوروبا زمن الضائقة، الطبقة العاملة ذات الحالة المستقرة الى حدّ ما، الباحثة عن الطمأنينة؛ هذا كله من مكونات عمل لا يختار المواربة ولا التدليس. ماريون كوتيار في دور ساندرا، طعنة في القلب وقلب نظام اجتماعي، على أحدهم أن يدفع الثمن دائماً، كأن المكان لا يتسع للجميع، وكأن البشر صاروا أعباء على البشر. فيلم سياسي من الدرجة الاولى، لا يتضمن أيّ موقف سياسي، ولا يصدر فيه أي حكم حيال واقع تنتصر فيه الحاجة على كل شيء آخر. من دون نوتة موسيقية واحدة او حركة كاميرا تأتي خارج سياقها الجمالي، يوقّع لوك وجان بيار داردين فيلماً كبيراً عن الصراع من أجل الكرامة والبقاء من دون أن يتحول الواحد منا الى شخص آخر.
كوتيار التي تظهر في الفيلم بلا ماكياج، كما خلقها الله، تسحق القلب وتخطف الأنفاس. انها ملاك هذه الدورة. رؤيتها متعة، يرافقها احساس بالذنب. ولكن، هل تهتف قلوب اعضاء لجنة التحكيم لها وتمنحها جائزة كانت تستحقها اصلاً في "عن الصدأ والعظم" لجاك اوديار؟
استطراداً: هل ينال الاخوان داردين "سعفة" ثالثة ويدخلان بها التاريخ (ستة مخرجين آخرين سبق ان نالوا "السعفة" مرتين)؟ القرار في يد جاين كامبيون ولجنتها، علماً ان اجواء المنافسة باتت محتدمة مع مشاركة افلام مهمة كـ"سبات شتوي" لنوري بيلغي جيلان او "مستر ترنر" لمايك لي او "صائد الذئاب" لبينيت ميللر او حتى "مامي" لكزافييه دولان (لمَ لا؟).


"حكايات وحشية" لداميان جيفرون
"حكايات وحشية" لداميان جيفرون اضفى على المسابقة الرسمية بعضاً من الفكاهة والخفة، لكنها فكاهة مصحوبة بالكثير من الخبث والجنون واللؤم، خلفه نصّ محكم البناء. انتج الفيلم المخرج الاسباني بيدرو ألمودوفار، ويمكن القول انه يحمل بصماته في غير مشهد، على الاقل في لقطة الافتتاحية السوريالية على طريقة اسباني آخر هو لويس بونويل. احدى السيدات تركب الطائرة، "يتحرش" بها جارها، فينطلق بينهما الكلام، لنعلم أنه ناقد موسيقي واستاذ جامعي مرّ تحت يده الشاب الذي خرجت معه الفتاة الجالسة الى قربه في هذه اللحظة. حتى قبل أن نُمنح ما نحتاجه من وقت لنصيح بعبارة "يا للمصادفة"، نرى ان جميع ركاب الرحلة يعرفون هذا الموسيقي الفاشل او كانوا على علاقة به في مرحلة من المراحل. لحظات قبل أن يتم الاعلان عن وجوده في قمرة القيادة، حاملاً اياهم الى الهاوية. هذه بعض اجواء الفيلم الذي ينقسم سكيتشات عدة، جميعها يصور شخصيات على حافة الانهيار العصبي وتجتاز الحد الفاصل بين التحضر والبربرية: مهندس لا يعود يتحمل ان تحتجز الشرطة سيارته في كل مرة يركنها في المكان الخطأ، شاب يقوده غضبه الى صراع دموي مضحك مع سائق سيارة أرعن، الخ. بفيلمه هذا، يخلق جيفرون مفاجأة جميلة في كانّ. هذا ثالث شريط روائي طويل لهذا الأرجنتيني الذي اشتد عوده في كواليس التلفزيون. واضح انه ابن السينما "العالمية"، ذلك انه اذا كان المودوفارياً او بونويلياً في بعض الأحيان، فهو يشي بانحياز واضح الى الكوميديا الايطالية التي سادت في ستينات القرن الماضي وسبعيناته. من الأسئلة التي يطرحها الفيلم: ماذا يحصل لو تركنا غرائزنا تقودنا وتقرر عنا بدلاً من عقولنا؟ في المقابل، هذه العبثية كلها عند جيفرون لا تعفيه عن طرح بعض المواضيع الاجتماعية الجادة، كالفساد مثلاً. مراهق من عائلة غنية يدهس امرأة حاملاً، فيحاول والده تخليصه من السجن عبر الاتفاق مع احد العمال لديه: على العامل ان يدّعي انه هو الذي كان يقود السيارة التي دهست المرأة، لقاء مبلغ كبير من المال. لكن، شيئاً فشيئاً تتعقد الأمور مع مطالبة كل من محاميه والشرطي الفاسد بحصصه، ليعلن صديقنا المليونير أخيراً انه لم يعد مهتماً بحماية ابنه. يتحكم جيفرون بكل مفاصل الفيلم، من الاخراج الى السيناريو فأداء الممثلين، ليقدم حكاية شعبية أبطالها نحن، أيّ كل واحد منا، حتى قبل ان يكونوا اؤلئك الذين نراهم يتحركون على الشاشة، على شكل أبطال القصص المصورة.


"سائح" لروبن اوستلوند
فيلم آخر جنّن المشاهدين بلكنته العبثية: "سائح" للمخرج الأسوجي روبن اوستلوند المعروض في قسم "نظرة ما". هذا الفيلم يتشارك مع "حكايات وحشية" التماهي الذي يحصل بيننا وبين الشخصية الرئيسية في السينما. ما يحملنا الى السؤال الآتي: ماذا كنا فعلنا لو كنا مكان تلك الشخصية؟ الحكاية بسيطة وقد تحصل في كل مكان، لكن معالجتها محض اسكندينافية: عائلة أسوجية تذهب الى عطلة تزلج في مرتفعات جبال الألب الفرنسية. الى هنا، لا شيء غريباً! حدث بسيط سينقلب على اثره كل شيء رأساً على عقب ويكشف الجانب المظلم لرب العائلة ولاوعيه: في حين كانت العائلة تتناول الغذاء، يحدث انهيار ثلجي يكاد يدمر المطعم. في لحظة الخوف والارتباك هذه، يتخلى الاب عن زوجته وولديه ليحمي نفسه، من دون أن ينسى أخذ معه قفازيه وهاتفه المحمول. هذه الحادثة لن تمر مرور الكرام. شيء ما سيعطب الى الأبد ولن يكون قابلاً للاصلاح، الأمر الذي ينعكس سلباً على ثقة الزوج بنفسه. تبدي الزوجة انزعاجاً شديداً مما ارتكبه زوجها، وتنمو لديها حاجة لاذلاله وتذكيره بأنه رجل اناني وغير نافع ليكون رب عائلة. كل شيء في الفيلم يتبلور تصاعدياً. من لحظات شروق الشمس الى كآبة غرف الفندق، حيث تتكرر مشاهد نقاش حميمية تذكّر بـ"مشاهد من الحياة الزوجية" لبرغمان. بيد ان اوستلوند ليس برغمانياً خالصاً، اسلوبه البارد والراديكالي والمستفز، على ارتباط وثيق بميشاييل هانيكه وسينماه الجليدية حيث الأشياء تنمو داخل الشخصيات ونرى تجلياتها لقطة بعد لقطة. علاقته بهانيكه لا تنتهي هنا. فأوستلوند مثل زميله النمسوي يعرف كيف يستقي حكاية كاملة من لحظات قليلة. فحادثة الانهيار الثلجي لا تستغرق على الشاشة الا ثواني قليلة لكنها كافية لأوستلوند كي يشيّد عليها خطاباً سينمائياً متكامل العناصر. ينقب الفيلم في اسطورة الرجولة التي تكرسها وسائل الاعلام والدعايات على مدار الساعة. اوستلوند مراقب فذ للحالة البشرية، يعرف كيف يرسم طريق بطله، من المظهر الجذاب الذي هو عليه الى النفور الذي سيولده عند المشاهد بعد تصرفه الأخرق. هذه سينما يحلو لي تسميتها بـ"مختبر التجارب"، حيث يسعى المخرج الى تأكيد نظريته بطريقة علمية مخبرية دقيقة. انه من الأفلام حيث واحد زائداً واحداً يساوي اثنين، لا محالة!


"سان لوران" لبرتران بونيللو
المخرج الفرنسي برتران بونيللو ("لابولينيد" - 2011) جاءنا بفيلم منتظر مستوحى من سيرة مصمم الأزياء ايف سان لوران (1936 - 2008). لا تنقص الشريط الأخاذ لا الرشاقة ولا النخبوية في النحو الذي ينقضّ فيه على شخصية عاشت صراعاً داخلياً من اجل الخلق. من المصمم المثليّ المولود في وهران الذي حرر المرأة، يستقي بونيللو حكاية الخلق الأبدية والمعاناة المرتبطه به. لا يلتزم بونيللو مستلزمات أفلام السيرة، معترفاً بأن فيلم جليل ليسير الذي صدر في مطلع هذه السنة اراحه من همّ التجسيد التقليدي. مرات ومرات يفكك بونيللو فيلمه ثم يعيد تركيبه ثم بناءه وهدمه مجدداً. يأتي "سان لوران" (مسابقة) بعد أشهر من صدور فيلم ليسبر، عن الشخصية نفسها، ويمكن القول ان عرضهما ضمن اطار زمني متقارب، يضعنا في مواجهة الأسئلة المرتبطة بكيفية صناعة سينما السيرة او ما يسمّونه في اميركا "بيوبيك". لكن هذا الـ"جانر" السينمائي يتمرد عليه بونيللو، حاملاً شخصيته الى مناطق اخرى غير مظنونة من حياته. كيف يمكن شخصية واحدة ان تكون مادة لنظرتين مختلفتين تكاد الواحدة منها تتضارب مع الاخرى احياناً. في فيلم ليسبر، كان التركيز على العقدة الغرامية التي ربطت سان لوران بمدير أعماله بيار بيرجيه (الذي، على ما يبدو، لم يكن راضياً عن فيلم بونيللو)، أما فيلم بونيللو فهو عن الهواجس المهنية والأخلاقية والنفسية لفنان ترك بصمات واضحة على زمانه.
الفيلم بروستيٌّ بامتياز لجهة تشابك الأزمنة. جزء كبير من سحره مصدره التأويل والخيال. هذا الابحار في الزمن يقرب الفيلم من "الزمن المستعاد" لمارسيل بروست. انه، ببساطة، فيلم عن فنان، بتوقيع فنان آخر، مناسبة نتأكد مرة جديدة من خلالها ان حياة سان لوران الذي عرف المجد في ستينات القرن الماضي وسبعيناته، لم تكن فقط حياة رفاهية ومال وشهرة. الرجل كان مهموماً بأسئلة الوجود والخلق، حدّ ان واضع السيرة هنا نسي أن يرينا مساهمته في صناعة الموضة. هذا الميل الوجودي في الفيلم يجعل الحوار بين الطرفين، المصوِّر والمصوَّر (سان لوران وبونيللو)، معقودة على الكثير من الشاعرية. غاسبار اولييل في دور سان لوران، نعمة هذا الشريط، في حين يشكل هلموت برغر في الدور نفسه لكن في عمر أكثر تقدماً بركته.


[email protected]

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم