الأربعاء - 24 نيسان 2024

إعلان

سينما - كانّ 67: جيلان المحتفى به يُغازل برغمان مستبدلاً الصمت بالقلق والبوح/  طومي لي جونز يقرع طبول النوستالجيا بخطاب ناقص ونجومية زائدة

A+ A-

ثمانية أيام مرت على انطلاق الدورة السابعة والستين لمهرجان كانّ السينمائي (14 - 25 أيار)، ولم نضع يدنا بعد على الجوهرة التي ستشكل فخر هذه النسخة وترفع من شأنها لتصل الى مستويات الأعوام الماضية. الاستقبال الذي حظي به "مستر ترنر" لمايك لي، و"سبات شتوي" لنوري بيلغي جيلان، كان مطابقاً لأهمية المعلمين السينمائيين، ولكنْ ثمة احساس سائد في كانّ على مدار الويك اند الأول، بأن ساعة الفيلم الكبير أو الاكتشاف الأعظم الذي يسمّى به المهرجان، ويرتقي، لم تدقّ بعد في الريفييرا الفرنسية. حتى لحظة تدوين هذه السطور، لا يزال ثلثا المسابقة رهينة الأيام المقبلة.


لا يأتي المشاهد الى كانّ لمتابعة أحدث ابداعات القامات الكبيرة في السينما فحسب. هذا تحصيلٌ حاصل. ثمة، في كل دورة من الدورات، حزمة من الأسماء الجديدة التي تصعد في قافلة السينما الكبيرة. هذه مواهب فتية يحسب لها متابعو الشأن السينمائي حسابات لم تكن واردة في بالهم حتى الأمس القريب. هنا أهمية لقاء سينمائي من هذا النوع؛ اذ ما من متعة أكثر من أن ترى "شيطاناً" صغيراً يسحب البساط من تحت أقدام أنصاف الآلهة.
المخرج التركي الكبير نوري بيلغي جيلان صفع المشاهدين مرة جديدة في كانّ. ثلاث سنوات بعد "ذات زمن في الأناضول"، يعود هذا الذي بات في مرتبة واحد من أكبر الخلاقين في العالم، من خلال شريط "سبات شتوي" (مسابقة)، محاولاً اجتياح احدى المناطق الأكثر غموضاً وتعقيداً في الطبيعة البشرية: العقل. جيلان يقدّم فيلماً أقل ما يمكن القول فيه انه ليس سهلاً وغير قابل للمساومة. ثلاث ساعات و16 دقيقة من الفلسفة الوجودية الممعنة في سياق الحياة اليومية. انغمار برغمان ليس بعيداً من الأجواء. الفيلم يشبه تلك التجارب التي كان يحلو لبرغمان تسميتها "أفلام الغرف". دعونا لا ننسى انه قرر انه سيكون مخرجاً بعدما شاهد فيلم "الصمت" لبرغمان. صمت بليغ سيرافق أفلامه كلها لسنوات طويلة. لكن جيلان يترك المَشاهد التأملية هذه المرة (وإن كانت موجودة هنا بين حين وآخر)، ليركن الى سينما كثيرة الكلام، ولكن ليس أيّ كلام. بل الكلام المشبع بالنقد والفلسفة والقلق الوجودي.
يضع جيلان شخصيات عدة في بقعة جغرافية واحدة ويفرض عليها التعايش. تتمحور الحكاية على ممثل سابق (هالوك بيلغينير) هو ايضاً مالك أراضٍ ثري انسحب من الحياة الإجتماعية وراح يمضي أيامه في منزل العائلة الواقعة في الأناضول بعدما حوّله الى فندق. يحاول أيدن (هذا اسمه) كتابة تاريخ المسرح التركي ويشغل نفسه بإنجاز مقالات لمجلة محلية لا يقرأها أحد. حياته تتقاطع مع حياة زوجته، تلك السيدة التي تسخر من جهود ايدن. بينهما فتور نتيجة تراكمات وخلافات في مقاربة الحياة. الكاميرا عند جيلان تلتقط بالعبقريــــــة عينها، الوجوه والمناظر الثلجية، القريب والبعيد، المعلن والمخفي.
حجر صغير يرميه صبي على سيارة محطماً زجاجها في بداية الفيلم، كافٍ ليُزجّ بنا في خصوصية المكان. البوادي وناسها شخصية غير منفصلة عن الفيلم وكيانه، انها الرئة التي يتنفس بها النصّ الذكي والحوارات الشيقة، التي تشكل سابقة في سينما جيلان، المقلّة كلاماً والغنية صوراً. ينسج جيلان فيلمه كما تُنسج السجادة، أيّ بخيوط متداخلة ومتعددة اللون. لا شيء يموت في هذا الفيلم الكبير، كلّ شي يتحول، الحبّ والفنّ وصمود الانسان في بيئة قاسية من شأنها تعزيز علاقته بمحيطه. في مقابلة مع سعيد المزواري نُشرت في "النهار"، كان يقول: "شعوري أن الحياة لا معنى لها، لذا أعمل لجعلها ذات معنى، بالنسبة إليّ وإلى الآخرين، ولكن بطريقة غير مباشرة. منهج إنجاز أفلامي هو الآتي: إيجاد معنى الحياة يكمن في البحث عن تفاصيل متفائلة داخلها".
في كل مرة قدّم جيلان فيلماً جديداً نال حصته من الاشادة. مع كانّ، كانت العلاقة دائماً طيبة. في هذا المهرجان، نال ثلاث جوائز رفيعة، مرة عن "بعيد" (2002) ومرة عن "ثلاثة قرود" (2008) وفي المرة الأخيرة عن "ذات زمن في الأناضول" (2011). حتى انه طلب الا يُعرض جديده الا في صالة "لوميير" (حيث العرض أفضل تقنياً من صالة "ديبوسي")، ولبّت ادارة المهرجان طلبه. لا شيء يؤكد حتى الساعة تقدمه على سائر الأفلام المعروضة وأرجحيته لنيل "السعفة الذهب"، إذ لم نشاهد بعد الا 12 فيلماً من أصل 18 في المسابقة الرسمية. السؤال: هل يلتحق مصير جيلان بمصير تيو انغلوبولس الذي انتظر سنوات قبل ان يجري الاعتراف به ومنحه "السعفة" من على أرفع منبر سينمائي؟


* * *


"صياد الذئاب" للأميركي بينيت ميللر (صاحب "كابوتي" الذي جعل الراحل فيليب سايمور هوفمان يفوز بـ"أوسكار" أفضل ممثل عنه)، ثاني أهم فيلم بعد "سبات شتوي" عُرض في المسابقة (علماً انه فاتنا فيلم مايك لي "مستر ترنر" وسنعود اليه فور مشاهدته). هذا عمل مقلق، صادم، سهل المتابعة، عميق، قوي المضمون. نصّ مترابط وسلس يترجح بين جيمس غراي وجويل كوين (في تعريتهما لأميركا) ينزلنا الى جحيم العلاقات التي تنشأ بالقوة. يقترح ميللر احدى الجواهر السينمائية لهذه الدورة. ستيف كاريل في دور رجل نافذ يعاني عقدة أوديبية يقدم "ال" أداء. أداء في منتهى الرصانة، خصوصاً انه يمثل تقريباً بلا شيء، مقتصداً طاقاته الى الدرجة الأخف. عمل كبير عن جنون السلطة والسيطرة، الذي ينزلق الى الجريمة، مشبع بمعالجة هادئة وتشويقية ترتكز إما على سذاجة الشخصيات وإما على صدقها، وفي الحالتين تنتهي المسألة بالجريمة والدمار. يجمع ميللر كل تلك التيمات الأميركية (حبّ السيطرة، الوطنية، الخوف من الآخر، تعزيز وسائل الدفاع) في كفّه ويرميها في وجهنا. انها السينما الأميركية التي نحب، تلك التي تقول الكثير، بأقل قدر من الصخب واليقين.


* * *


من أجمل اكتشافات هذا المهرجان، فيلم المخرجة الايطالية أليتشه رورفاكر. هذه الشابة التوسكانية التي لا تتجاوز الثالثة والثلاثين، أصر تييري فريمو (المدير الفني للمهرجان) على اختيار فيلمها، "الروائع"، وادراجه في المسابقة الرسمية، بعدما كانت قد شاركت في "اسبوعا المخرجين" عام 2011 بفيلم واعد. لا حكاية كبيرة في هذا الفيلم. نحن في خضم التفاصيل اليومية لعائلة من مربّي النحل؛ هناك الأب المتسلط وزوجته واخته، وهناك بناته الأربع اللواتي يساعدن أهلهن في استخراج العسل. هذا الأب رجل مكبل عاطفياً لا يعبّر عن مشاعره الا من خلال الغضب...
صوّرت المخرجة فيلمها في المنطقة التي ولدت فيها، أي في الريف الواقع بين أومبري ولاتيوم وتوسكانا. تنحدر رورفاكر كما يتبدى جلياً من اسمها، من عائلة ايطالية ألمانية. دفعتها الى تصوير هذا الهامش الريفي حيث تتبلور عائلة تدير شؤونها وشجونها الصبية جلزومينا، ازاحة الستار عن "الطهارة" التي تتسم بها بعض القرى النائية الخارجة على الزمن، وهي - أي تلك الطهارة - ليست أكثر من مظاهر، بل غطاء لصون خلاص الريفيين الاقتصادي.
لم تخترع رورفاكر ذكرياتها. كما انها لم تعش حقيقةً ما تصوره. هي انقضّت فقط على تلك المنطقة الضبابية التي بين الواقع والمتخيل. حدثان يغيّران مجرى حياة العائلة وروتينها القاتل: الأول وصول صبي صاحب سوابق يحتاج الى تأهيل اسري، الأمر الذي سيدخل بعض المال الى العائلة. أما الثاني فيتجسد في مجيء فريق تلفزيوني يصوّر برنامج ألعاب تقدمه مونيكا بيللوتشي. من مزايا الفيلم الرقة والحنان اللذان تستعين بهما المخرجة الموهوبة لتصوير قرويين يعيشون بحرية تامة بعيداً من كل مظاهر الحداثة. رورفاكر ليست فيلليني كي تخترع كل شيء من العدم، ولكنها تملك شغف التصوير نفسه الذي كان عليه المخرج الروماني.


* * *


في ثاني تجربة اخراجية له، "هومزمان" (مسابقة)، يحملنا المخرج والممثل الأميركي طومي لي جونز الى الغرب الأميركي في فيلم وسترن يقرع طبول النوستالجيا السينمائية. زمن الجياد والكاوبوي والصحراء القاحلة والمساحات الشاسعة؛ هذا كله يشكل التفاتة وجدانية الى سينما تعود وتنتعش في فيلم اخرجه احد الوجوه القاسية في السينما الأميركية المعاصرة.
عموماً، طومي لي جونز لا يقلَّد. انه الوجه العابس الذي لا يضحك الا عند الضرورات التكتيكية. وفي الأفلام التي تُسند إليه الادوار فيها، يبدو ان لا ضرورة لذلك. لدى خروجنا من عرض الفيلم، قال لي صديق ممازحاً انه كان يود ان يرى لي مارفن في الدور الذي يضطلع به جونز. بيد انه من الضروري ان نتذكر ان لي جونز، خلافاً لمارفن، من الممثلين الباطنيين الذين تتعايش فيهم القسوة والرقة معاً. هذه هي الشخصية التي يبني عليها جونز فيلمه الثاني اخراجاً وتمثيلاً.
تجري الحوادث في اواسط القرن التاسع عشر: ثلاث نساء فاقدات العقل يُعهد بهن إلى مايري بي كادي (هيلاري سوانك) - وهي سيدة عزباء من نبراسكا - كي تقودهن الى احد مقار المعالجة. في طريقها الى ايوا لايصال النساء الثلاث، تتعرف مايري إلى جورج بريغز (طومي لي جونز)، كاوبوي ساقط أخلاقاً وناهب ممتلكات الآخرين. تنقذ مايري هذا الوغد من الموت، فتتحالف واياه كي تكمل طريقها وتعبر مساراً محفوفاً بالأخطار.
أراد جونز تناول قضية المرأة في القرن التاسع عشر، لأنها "أساس قضيتها في الزمن الحالي"، كما يقول في الملف الصحافي. في "هومزمان"، بريغز هو الرجل الوحيد بين مجموعة نساء، ادوارهن من اللاشيء الى كلّ شيء، في مرحلة ما قبل الحرب الأهلية الأميركية. نساء معنفات، خاضعات، متروكات.


[email protected]

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم