الأربعاء - 24 نيسان 2024

إعلان

تحت الضوء - "الخريطة والأرض" لميشال ويلبيك في العربية تأمل لماهية اللغز الرأسمالي حيث الضجر نافذة لتسلل المستقبل

جينا سلطان
A+ A-

يحوّل الكاتب الفرنسي ميشال ويلبيك في روايته "الخريطة والأرض" مفردات الحياة الباريسية الى اشياء تصويرية بحتة، تختزل طبيعة الحراك السياسي والثقافي تحت مسمّى إبراز العمق الأوسع لذاكرة الضجر، معتبراً نفسه مع أقرانه، الممثلين الأخيرين لحرفتي الكتابة والرسم، اللتين أصابها الإنتاج التجاري بمقتل. يغدو نصه تأملا لماهية اللغز الرأسمالي، وتطويقا لواقع مادي يحتضر متلمسا معجزة اجتراح مستقبل أكثر حيوية وانفتاحا إنسانيا.


الرواية ثلاثة أقسام، يدور في فلكها بطل واحد بثلاثة وجوه، رسام وكاتب ومحقق جنائي، يمثل كل منهم جانبا افتراضيا صغيرا من شخصية ويلبيك الحقيقية، التي تطل باسمها الصريح وتشارك في صنع الأحداث وتحريكها نحو خواتمها، ما يجعل النص استدعاء محنكا لعنصري الدعاية التسويقية الملائمة لروح العصر، والنقد الذاتي المتجذر في طيات الأدب الواقعي.
ولد فنان مميز لحظة اكتشف الطفل جاد مارتان في علية منزل جده، آلة تصوير كلاسيكية قديمة، فأتقن طريقة العمل واندفع بسرعة لتصوير مواد العالم المصنعة، التي شكلت اللبنة الأخيرة في صيرورة تبجيل العمل البشري، المتناسل عبر سلالات طويلة من العمال الزراعيين والفلاحين الفقراء. نجح جده المصور في مغادرتها، محرراً نسله من حلقة اعادة الانتاج الاجتماعي للشيء ذاته من دون قيد او شرط. وكان وصول ابنه الى رتبة مهندس ترفعاً اجتماعياً لا يستهان به، تعزز بنجاحاته اللاحقة كمتعهد بناء. هذا النسق من الارتقاء والصعود، اكتمل بتكريس جاد حياته المهنية لإنتاج مظاهر العالم، فالحركة العامة للفن كانت تتجه نحو قبول العالم بحماسة، وبمسحة من التهكم. بدا إعطاء صورة علائقية وجدلية عن طريقة عمل الاقتصاد الذي عاصره، مواكبة فعالة للرؤية الفنية الكلاسيكية. فقد جرى اعتبار رسامي الماضي الكبار، عظماء حين طوروا نظرة متماسكة ومبتكرة عن العالم. وكان تقديرهم يزداد كلما اقتربت نظرتهم للعالم من الشمولية، وغدت صالحة لجميع الاشياء والمواقف الموجودة او المتخيلة.
بدأ جاد مسيرته الفنية بالتصوير، مكرِّساً سنوات دراسته لرصد أساس منتجات العالم المصنعة، ثم انتقل إلى رسم الخرائط الطرقية التي أظهرت سحر الأقاليم الفرنسية وفق منظور صوفي. في المرحلة الأخيرة اهتم برسم الصنّاع أنفسهم، فعكست لوحاته رجالاً أو نساء يمارسون مهنتهم بحسن نية، في تأكيد لهوية الرجل الغربي التي تتحدد وفق مكانته في عملية الانتاج، لا باعتباره كائناً يتناسل. وهي فكرة سيختزلها فرانز صاحب الغاليري بالنظرة المركزة على الحركة الفنية ووضعها في المجتمع. فإعادة تكوين ظروف الانتاج الخاصة بمجتمع ما، من خلال عدد معين من المهن النموذجية، قد تحقق رؤية عادلة له. لإبراز تلك الرؤية اقتضت الحاجة إلى إنتاج خطاب نظري للوحات التي عمل عليها جاد عشر سنين بشكل غامض ومنزوٍ، متحولاً الى رسّامٍ هاو، خارج حالة الفنان المحترف. وهذا ما استدعى دخول ويلبيك ككاتب يؤجج العزلة والانطوائية المتواترة في النص الأدبي برمته، ليغدو المعرض بمثابة لقاء يجمع اتقاد العقل وبراعة الريشة، ما يقدم يقيناً ملموساً بوجود العمل. ففي حضن النوع الاجتماعي، تغدو الفردية وهماً سريع الزوال..
حاول جاد من لوحة الى اخرى بناء مساحة مصطنعة رمزية، يستطيع فيها تصوير مواقف ذات معنى بالنسبة للجماعة. وحين رسم لوحة "ميشال ويلبيك، كاتباً"، حقق القطيعة مع الاعماق الواقعية التي كانت تتميز بها مجمل اعماله طوال مرحلة "المهن". فقد اجتهد من خلال حيل عدة، لإبراز الوهم المخادع لعمق واقعي محتمل، محجوب بالتعبيرية المذهلة التي ترصد الكاتب، مأخوذاً بهيجان فكري يشبه طقوس الفودو. هذا الاستبصار المثير للاهتمام شكّل جسراً للمصالحة بين منبع الاعتزاز الحقيقي المسمّى بالهوية الفنية، والشكل الظاهري الذي ارتسم في الأذهان منفّراً، بسبب فيض الكآبة والسوداوية. كأن الكاتب يلمع صورته محاولاً التماس العزاء المستقبلي، حين تسقط التفاصيل الصغيرة وتبقى فقط ومضة الإبداع.
انتهت حياة ويلبيك من العالم كسردية الروايات والافلام والموسيقى، حين تسلّم لوحته من جاد، الذي انهى بدوره حياته المهنية بعدما غلّفه الثراء فجأة وخلّصه من كلّ قيد مالي. اشترى سبعمئة هكتار من الأراضي المشجرة وسوّرها، واعتزل في منزله بعدما ادرك انه سيغادر العالم الذي لم يكن جزءاً منه. فعلاقاته الانسانية القليلة اصلاً، ستجف واحدة تلو الاخرى، وسيكون في الحياة هانئاً ومن دون بهجة، وحيادياً بشكل لا شفاء منه. في المقابل وصل المحقق جاسلان إلى تقاعده بعد حياة مهنية أتلفت كل شيء، مخلِّفةً له غبطة السعادة الأسرية مع زوجته وكلبه الصغير. سلام روحي خلخلته جريمة قتل وحشية طالت الكاتب المعتزل ويلبيك وكلبه، وغطت على سرقة اللوحة النادرة التي رسمها له جاد مارتان.
تغيرت البلاد في العمق خلال السنوات اللاحقة وصولا إلى عام 2020. فسكان المناطق الريفية التقليديون العدائيون اختفوا بالكامل تقريباً، وحل محلًهم سكان جدد، آتين من مناطق مدينية، تحركهم شهية حيوية للمؤسسات وقناعات بيئية معتدلة وقابلة للتسويق. عادت فرنسا لتصبح وجهة مختارة للسياحة الجنسية واستعيدت مهن قديمة، وكأن لوحات جاد عن المهن حفظت طريق العودة للأجيال الجديدة. بينما اشترى جاد تماثيل صغيرة على شكل كائنات بشرية، واخضعها للتحلل تحت المطر وأشعة الشمس كي تستحيل أشلاء، فبدت للحظات كأنها تقاوم قبل أن تختنق تماماً تحت طبقات النبات المتراكبة، التي حققت نصراً مطلقا، كرمز للإبادة المعمقة للنوع البشري.
تمثل "الخريطة والأرض" تأملاً نوستالجياً في الطابع العابر والقابل للهلاك لكل صناعة انسانية. تدير على نحو خفي طقوس انتحار الحياة عبر انغماسها الكلي في النزعة المادية ذات الإطار الترفيهي. اقتران انفصال ويلبيك/ جاد عن محيطه بالتفكير الحيادي البارد حول العالم، سهّل نجاح مشروعه في تقديم وصف موضوعي للعالم الانتاجي ومآله في المستقبل القريب.

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم