الثلاثاء - 16 نيسان 2024

إعلان

كتاب - "ورددت الجبال الصدى" للأفغاني خالد حسيني: السعادة للمسجونين داخل أحزانهم

جينا سلطان
A+ A-

جلب السعادة للمسجونين داخل أحزانهم، مأثرة الكاتب الافغاني خالد حسيني؛ مأثرة تعتقت بصميم عقيدة الرومي المنفتحة على احتواء الآخر مهما نأى، حيث الإنسان جوهر حر يتوق إلى التخلق حبا وعطفا. هذا ما يكتهن رواية "ورددت الجبال الصدى"، اذ يلتقي المحبّون ضمن مجال مكاني لانهائي، خارج مضمار كل الافكار ومفاهيم الخير والشر، الفضيلة والخطيئة. وهي حيادية عاطفية تتنصل من أعباء الالتباسات الأخلاقية المثيرة للجدالات العقيمة.


تحمل الفصول الروائية تعاقب الأعوام بين 1952 و2012، لتسهيل انزلاق الشخصيات نحو مصائرها المتشابكة بطريقة مدهشة، تعطي القدر مساحته الكافية لتنظيم اللقاءات بينها، ما يجعل قصص الأبطال جسورا تصلهم بأقرانهم من الحائرين العابرين إلى ضفاف الحياة وأزمنتها المركبة. يعتبر حسيني القصص كالقطارات المتحركة لا يهم من اين نركبها، لأننا سنصل إلى غايتنا على متنها عاجلا ام آجلا. لذلك تختصر حكاية الفلاح أيوب والغول خاطف الأطفال، معاناة الإنسان الأزلية مع تصاريف الأقدار، وتدخلنا في عمق الصراع الداخلي لأب خاض امتحانه الأقسى حين أُجبر على التخلي عن طفله مقابل ضمان سعادته. وهي بشكل خفي تسبر ماهية الإنسان واستعداده للتحكم بنوازع الاستئثار بأبنائه وتملكهم، وإلى أي مدى يذهب في الاعتراف بتفردهم. فسابور الكادح الشقي، تخلى عن ابنته الوحيدة باري لعائلة ثرية، وخسر اعتباره لذاته وانقطع عن قص حكاياته المشوقة، التي اختزلت شخصيته الحقيقية النابضة بالحياة. اقترن التخلي عن باري ببتر شجرة البلوط العملاقة، التي كانت ذاكرة القرية المحزونة، ومكان نذور الحب والاستشفاء. في المقابل تخلت مادلين اليونانية عن ابنتها الوحيدة تاليا، التي تَشوّه وجهها بفعل عضة كلب، ورمتها لصديقتها أودي كي تعتني بها. أما الصغير الهندي منار، فلم يجد من يعتني به في المشفى، سوى لوكاس ابن أودي، الذي تمرد على شعوره بالمنفى داخل جزيرته اليونانية، وعاش مترحلا في أرجاء العالم. في المقابل تكفل عبد الله ابن الأعوام العشرة تربية أخته الصغيرة باري، قبل أن تنتزعها منه أوهام عاشق يدعى نبي، منح سيدته الشاعرة المتمردة نيلا أثمن مصالحة مع الحياة، حين دفع صهره سابور لبيع ابنته الصغيرة لها.
رددت الجبال صدى الانتظار الطويل، وأحلام اللقاء المؤجلة عقودا طويلة، فانتظر عبد الله لقاء باري اكثر من نصف قرن، وبقيت علبة الشاي بريشاتها الملونة رمزا لمودة أخوية تتحدى قدر الفراق. ارتسمت ريشة الطاووس التي قايضها الصغير بحذائه الجديد، ليعود الى البيت حافيا دامي القدمين، رمزا للتضحية النادرة والايثار الفريد. في المقابل كفلت تضحية معصومة الجميلة بحياتها، لشقيقتها التوأم القبيحة بروانة زواجها من سابور، الذي عشقته بصمت فصدمها بحبه لمعصومة. أما سليمان وحداتي فعشق خادمه نبي بصمت، وعاش ألم حياة كاملة من القمع، ألم الحرمان من سعادة مستحيلة لن تتحقق. وحين هجرته زوجته نيلا مصطحبةً باري معها إلى باريس، واظب نبي على الاعتناء به، مكرسا له حياته.
مثلت شخصية نيلا المتمردة المثقفة التفافا ناجحا حول الواقع الأفغاني المجبول بالقسوة، وآلام الإنسانية المجهضة. فكونها نصف فرنسية وسليلة عائلات البشتون الاريستوقراطية، وضعها في قلب الحصار الاجتماعي، فرُجمت اشعارها ووصف سلوكها بالتهتك، وغدا استسلامها لزواج فاشل انتحارا بطيئا، أخّره انشغالها بتربية باري واصطحابها الى باريس، حيث وفرت لها حياة حرة. أعطت باري المحتجزة بشعور الغياب الغامض، مجرفة، وطلبت منها اعادة ملء فجوات الحزن العميقة في داخلها، وهذا ما فعلته طوال طفولتها وحياتها معها. وهو الموقف الذي ستتخذه تاليا من أودي طوال حياتهما المشتركة. فصلابة أودي وإيمانها بالولاء والتنكر للذات، نجحا في فرض تاليا بوجهها المشوه على أهل القرية، واعادة دمجها بقوة في الحياة الاجتماعية. هذا التضامن الصامت ولّد حلفا بين المرأتين يشابه الحلف الذي عقده وحداتي مع نبي. فتاليا ستنقذ الأم مما تخشاه، وستنفذ كل الأمور الكريهة والكدح الشاق الذي يستجره عجز الشيخوخة. بينما أبت طبيعة ماركوس تفهم معدن أمه المغالية في مثاليتها، فهرب مرتحلا في انحاء العالم، منكرا احتياجاتها وقلقها من الوحدة وفزعها من العزلة والهجر، لينتهي به المقام في منزل نبي بكابول مع طاقم فريق الاغاثة.
من خلال منار وتاليا، عرف ماركوس ان العالم لا يرى المحزونين الساكنين داخل قمصان اللحم والعظم. لا يهتم مقدار ذرة بالآمال والاحلام، بالأحزان التي تنبض داخلهم. هذا الامر بسيط بقدر ما هو عبثي وقاس إلى درجة الوحشية. فالشفقة غالبا لا تتجاوز عتبات التعاطف الآني، كحال الطفلة الأفغانية روشان، التي نجت من مجزرة عائلية بعدما شوهتها ضربة فأس. ثم خذلها مواطنها الطبيب الأميركي ادريس بعد تلاشي موجته الانفعالية، فتكفل ابن عمه تيمور علاجها في أميركا، مصححا للطبيب نظرته الخاطئة عن الاستعراض الرجولي للإحسان! في المقابل يغدو الإحسان سلاحا فتاكا يضمن تواطؤ المقهورين مع جلادهم، إذ يغلف تجارة المخدرات ونهب أراضي الفلاحين. وحين يكتشف احد أبناء تجار الحرب الأفغان أن منزلهم هو نصب تذكاري للخيانة والاهانة والظلم، يتأكد أن الخوف هو مقايضة حكيمة للحصول على الرفاهية. فما ان تصبح بطل حرب حتى يتحتم عليك ان تبقى كذلك حتى اخر لحظة من حياتك.
أورث عبد الله ابنته الوحيدة باري حلمه بلقاء أخته الغائبة عبر حكاية تتكرر يوميا. فوجدت الطفلة في عمتها باري رفيقتها السرية، وشعرت انها ممسوسة بها. إذ جمعهما رابط خافت مطوي داخل لغز قديم. فواظبت الصغيرة سرا على كتابة بطاقات بريدية لعمتها، واحتفظت بها إلى حين اللقاء، الذي تحقق بعد ثمانية وخمسين عاما، حين توارت ذاكرة عبد الله في النسيان، فلم يتبق سوى صندوق الريشات مع رسالة لباري: “اصلي لكي تجدي الصندوق يا أختي، لكي تعرفي ما حملته في قلبي لأجلك طوال عمري”.

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم