الخميس - 25 نيسان 2024

إعلان

هذا الجرح الذي في نفسي

أنطوان الدويهي
A+ A-

لم يعد لديَّ ما أقوله في مسألة الطبيعة والمشهد والبيئة في لبنان. كتبت وقلت كل ما عندي، على مدى عشرين عاماً، منذ عودتي من هجرتي الباريسية. مقالات تشكّل مجلّداً بأكمله. وأحاديث لم أتعب من تكرارها بتأثّر وحماسة، في كل تجمّع ولقاء. المسألة مسألة انهيار تاريخي ومجتمعي عميق، شامل، أنَّى للكتابة إيقافه. وكم شعرت طوال ذلك بعزلتي المأسوية، حتى بين النخب الثقافية، محارباً، وحيداً، طواحين الهواء، صوتاً صارخاً في الصحراء.


أذكر من يوميات حديثة ما يأتي: "كم مرة قلتُ في سرّي: "من يشفيني من هذا الجرح المفتوح، الفاغر في نفسي، الذي هو لبنان؟". نبع الآلام الذي لا ينضب، في الإقامة والهجرة، في الحضور والغياب، في الإدراك واللاوعي، مرفوعاً على صليبه في كل آن. لبنان، الذات المصونة وجذور الأعماق، قلعة الحرية، ملاذ الملاحَقين في دنياهم. الروحانية، الجمالية، الثقافة، الخيال، الأفق الذي لا يُحَدّ، جنّة الطبيعة. أين هي؟ بينها كلها، على عميق مأسويتها، جرح الطبيعة هو الأعمق. هو وحده الذي يعصي على كل علاج، ولا أمل في شفائه قطّ. لا في الطبيعة، ولا داخل الذات. "ما هذه الكلوم في جسمكَ الطاهر؟"، التي كانت تتردّد أصداؤها هذا المساء في أرجاء الوادي الكبير، كانت تعني لي لبنان ايضاً".
ربما بدأ كل شيء، في الأساس، قبل مئة وثلاثة وخمسين عاماً لا أكثر، حين انتقلت كلمة "لبنان" من قاموس الجغرافيا إلى قاموس السياسة.
لم يصبح "لبنان" كلمة سياسية إلا في العام 1861، مع "متصرّفية جبل لبنان" التي حلّت محلّ "نظام القائمقاميتين" العابر، وقبله "إمارة الجبل" المعنية، فالشهابية. قبل المتصرفية، طوال ألوف السنين، كانت كلمة "لبنان" عبارة جغرافية. اسم جبل، واسم موطن جبلي. لكن ليس كسائر الجبال. مرتفعٌ شاهق، وحيد، فريد، مكسوّ بغابات الأرز والسنديان والصنوبر والشربين، غزير الينابيع، عذب المناخ، خصب السفوح والمنحدرات، المشغولة شبراً شبراً بيد الانسان، خلاّب المشاهد، تكلّل هاماته الثلوج الأبدية ويسكن حناياه الربيع الدائم، مرميّ بسحر ساحر بين البحر المتوسط وصحارى الشرق، يؤمِّن بيئة مثالية لاحتضان الجماعات المضطهدة، المولهة بتحقيق ذاتها وبحريتها.
وكان "لبنان" طوال ألوف السنين رمز الجمال الأرضيّ في المخيلة البشرية. الجمال، والنقاوة، والشموخ، والطهارة. وكان ايضاً رمز البقاء الأبدي. "يا دواءً لعدم الموت". منذ ملحمة جلجامش الملك، السومرية- البابلية، أولى الملاحم، حيث السعي إلى غابة الأرز، "غابة الخالدين"، إلى أرتور رامبو هاتفاً في سبعينات القرن التاسع عشر: "يا لبنانات الحلم!"، مروراً بنصوص "العهد القديم" التي ما مجّدت مكاناً مثلما مجّدته، وبالأحاديث النبوية حيث يوصَف بـ"ملك الجبال"، و"حامل عرش القيامة"، إلى المئات من كتب الرحّالة الأوروبيين المبهورين بروعة طبيعته، من القرن السادس عشر إلى مطلع القرن العشرين.
ما الذي جناه "لبنان" من انتقاله من قاموس الجغرافيا والطبيعة، إلى قاموس السياسة والجيو-استراتيجيا؟ حديث يطول ويتشعّب. مسارٌ أشبه ما يكون بـ"سقوط الملاك".
ماذا جنى؟ جنى مالاً وتجارةً واعمالاً وإعلاماً وعلوماً ونُخَباً منذورة للهجرة، وجنى تعارفاً وتفاعلاً بين طوائف وجماعات متجاورة كان لا بدّ أن تلتقي في صورة ما، في كيان ما، على أمل أن تصبح شعباً. ونزف فتناً وحروباً بين أهله، حتى ظهور كلمة "لبننة"، أبشع إهانة للبنان على مدى تاريخه. وانهار سلّم القيم فيه إلى حدّ مروع، عمالةً ونهباً وتزويراً وكذباً ودجلاً وسمسرةً من كل نوع.
فوق ذلك كله، وأخطر منه كله، فقد لبنان أعظم ما فيه: جماله. فقد نفسه. ماذا ينفع الإنسان، ماذا ينفع لبنان، لو ربح العالم وخسر نفسه؟
دينامية رهيبة، يستحيل إيقافها، تدمّر طبيعة البلاد، تدميراً منهجياً شاملاً، متصاعداً، لا هوادة فيه، منذ نحو نصف قرن. التقاء المال الوفير، بالجهل، بوسائل البناء المستحدثة (منها الأسمنت المسلّح وحجر الخفّان)، بهوس الرفاهية بأيّ شكل وثمن، بـ"ثقافة" الأثرياء الجدد، بانعدام الجمالية والابداع، بنزعة السهولة والتقليد الأعمى، بعدم وعي التراث والهوية، بعدم إدراك المشهد، بكثافة سكّانية عالية بمقيميها ولاجئيها، بغياب الذوق الشعبي في موضوع العمارة، بغياب الدولة الذي زادته ضعفاً ولا جدوى نزاعات دامية وتوترات لا تنتهي.
وفلتت الأمور. قرى ومدن وشواطئ وتلال وسفوح وسهول وأودية وغابات، اجتاحها طوفان الأبنية الأسمنتية المتوحّشة، البشعة، الهجينة، العشوائية، بلا علاقة مع مشهدها، بلا طراز، بلا ذوق، بلا روح، بلا عقل، على مدى النظر، في جبل لبنان، وشواطئ الممالك الفينيقية، وسهل البقاع، وبلاد جبل عامل، وبلاد عكار، وكل مكان... وضمور الينابيع، وتلوّث الأنهر، والمياه الجوفية، والبحر، والهواء، وتصحّر زاحف في كل اتجاه.
ما من شعب فعل بأرضه وطبيعته ومشهده وبيئته، ما فعله ويفعله هذا الشعب. الأكثر إيلاماً، أنه غير مدرك ما فعل، وما يفعل.

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم