الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

حياد البطريرك، العدالة الاجتماعية وانفجار بيروت

غسان صليبي
حياد البطريرك، العدالة الاجتماعية وانفجار بيروت
حياد البطريرك، العدالة الاجتماعية وانفجار بيروت
A+ A-

يحاول البطريرك الراعي ان يطوّر في مفهومه لحياد لبنان، باذلا مجهودا فكريا لملاقاة الهواجس او الاعتراضات على الحياد من بعض الجهات اللبنانية. أي أنه بدأ عمليا بممارسة الحوار الوطني الذي اعتبره الطريق الوحيد لإعتماد الحياد في لبنان.

في محاولته يوم ٢ آب، طرح البطريرك ثلاثيته للحياد، معتبرا ان له ابعادا ثلاثة "متكاملة ومترابطة وغير قابلة للتجزئة". الجديد ليس فقط في الافكار الجديدة التي طرحها، بل بتأكيده ان المسألة سلة متكاملة لا يمكن الاستغناء عن ايٍّ من مكوناتها، وذلك على ما أظن، للمزيد من الطمأنة للمعارضين: "البعد الاول هو عدم دخول لبنان قطعا في احلاف ومحاور وصراعات سياسية وحروب اقليمية ودولية. البعد الثاني هو تعاطف لبنان مع قضايا حقوق الانسان وحرية الشعوب ولا سيما القضايا العربية التي تجمع عليها دولها والامم المتحدة. البعد الثالث هو تعزيز الدولة اللبنانية لتكون دولة قوية عسكريا بجيشها، تدافع عن نفسها في وجه اي اعتداء، أكان من إسرائيل أو من اي دولة سواها. ولتكون دولة قوية بمؤسساتها وقانونها ووحدتها الداخلية؛ فتوفر الخير العام وتعالج شؤونها الداخلية والحدودية بذاتها."

في ثلاثية البطريرك، لاءٌ واحدة ونَعَمان: لا للدخول في الصراعات الاقليمية والدولية، نعم لالتزام قضايا حقوق الانسان والقضايا العربية، نعم للدفاع عن لبنان ضد اي اعتداء اسرائيلي او غير إسرائيلي، من خلال الدولة القوية عسكريا بجيشها.

اللاء الواحدة والنعمَان، تجعل حياد البطريرك ذا صفة إيجابية، حيث تغلب إيجابيتان على سلبية واحدة. وهذا ما يسهل على البطريك القول بـ"الحياد الإيجابي".

ممارسة "الحياد الإيجابي"، هي طبعًا أعقد مما تبدو على الورق، وتحتاج الى وزير خارجية من أمثال فؤاد بطرس. كما ان العلاقة بين الابعاد الثلاثة، لن تكون ببساطة "متكاملة ومترابطة وغير قابلة للتجزلة"، في إطار تعقيدات الواقع المحلي والاقليمي والدولي. لكنها بإعتقادي محاولة من البطريرك تستحق المناقشة والتطوير امام الحائط المسدود الذي وصل اليه الوطن والكيان، بفعل التورط في الصراعات، والتنكر لحقوق الانسان، والإحجام عن بناء دولة قوية بجيشها، يكون في وسعها الدفاع عن لبنان ضد اي إعتداء. وهي الابعاد الثلاثة المعاكسة للحياد، وهي تقوم على نعم ولاءين: نعم للانخراط في الصراعات ولا لحقوق الانسان ولا لبناء الدولة القوية. ويمكننا بالمقارنة، تسمية ذلك بـ"اللاحياد السلبي".

مناقشة ابعاد الحياد كما يطرحها البطريرك تحتاج الى اكثر من مقال. ما يهمني هنا هو التركيز على غياب بعد عملي وآخر تكويني عن طرح البطريرك.

البعد العملي هو كيفية الانتقال من اللادولة الى الدولة القوية، التي باستطاعتها ان ترد اعتداءات اسرائيل خاصة، وهو الاعتبار الاهم الذي يستند اليه معارضو الحياد. بطريقة أوضح، ماذا تفعل الدولة- اللادولة بسلاح "حزب الله"، المؤهل للدفاع عن لبنان، الى حين بناء الدولة القوية؟

لا أجد جوابا عن هذا السؤال الا من خلال الدعوة الى اقرار استراتيجيا دفاعية يكون "حزب الله" وسلاحه طرفين فيها في إطار المؤسسات الدستورية المستقلة للدولة.

استغرب الّا ترد الاستراتيجيا الدفاعية في الكلام عن الدولة القوية، لا سيما ان البطريرك يعلم علم اليقين، ان الذين ينتقدون الحياد هم المتمسكون بسلاح "حزب الله"، ليس فقط كضمان امني في وجه إسرائيل، بل أيضا كضمان سياسي، مرتبط بهواجس عند معظم الشيعة اللبنانيين.

أعرف ان المسؤول عن عدم اقرار الاستراتيجيا الدفاعية حتى الآن هو "حزب الله" والعهد العوني، لكن طرح الحياد لا يمكن ان يناقش بدون بحث مسألة السلاح في إطار استراتيجيا دفاعية، هي المرحلة الانتقالية الضرورية بين اللاحياد التام والحياد، كما يطرحه البطريرك.

اما البعد التكويني الغائب عن طرح البطريرك، فهو المتعلق بمسألة العدالة الاجتماعية والمساواة في الداخل اللبناني، وبين جميع اللبنانيين. اسمّيه البعد التكويني لأنه يمس الاسس، التي بإعتقادي، تدفع باللبنانيين الى التبعية للخارج، وبالتالي الابتعاد عن الحياد. اي ان طرح البطريرك يتفادى معالجة الاسباب المجتمعية لمشكلة الحياد.

لا نحتاج الى التطلع، لا الى التجربة السويسرية ولا الى التجربة النمسوية، لتبرير الحياد في لبنان. فواقع البلدين وموقعهما الجيوسياسي مختلفان تماما عن واقعنا وموقعنا. فلننظر الى تجربتنا نحن، ولنأخذ منها العبر.

المثل الافضل للحياد في تاريخنا، هو التجربة الشهابية. قبلها كان الاتجاه المسيحي نحو حلف بغداد والاميركيين، والاتجاه المسلم نحو عبد الناصر، الذي ادى الى حرب أهلية سنة ١٩٥٨. الرئيس شهاب عرف كيف يعيد لبنان الى الحياد، بالتوافق مع الاميركيين وعبد الناصر. لكن قوة شهاب لم تكن في ديبلوماسيته فقط، بل في سياساته الاجتماعية العادلة التي ارست القاعدة الاجتماعية للحياد.

علّمتنا التجربة الشهابية، وهي التجربة السياسية الفضلى في تاريخ لبنان الحديث، أن ليس الحياد السياسي وحده ما يطمئن اللبنانيين، كل اللبنانيين، بل أيضًا التزام العدالة الاجتماعية بين المواطنين.

العدالة الاجتماعية تمتص المشاعر المذهبية التي تغذي التبعية للخارج والحاجة اليها في المعيشة وفي الطمأنينة النفسية، وتفتح الباب امام الحياد.

والحياد يؤمن السلام مع الخارج، ويفتح الباب امام النمو الاقتصادي ومسار العدالة الاجتماعية المرافق له، والذي لا يمكن ان يستمر وينجح بدون سلام.

فإذا نجح الحياد ايام الحكم الشهابي فلأنه ترافق مع العدالة الاجتماعية، وإذا أمكن تطبيق العدالة الاجتماعية فلأنها ترافقت مع الحياد.

الذين اسقطوا العهد الشهابي، معظمهم كانوا ضد الحياد وضد العدالة الاجتماعية معا.

الحياد في معناه الاستقلالي هو التزام مصالح شعب، وهذا يكون من خلال العدالة الاجتماعية.

يبقى ان الحياد والعدالة الاجتماعية يتطلبان تكوّن شعب يعمل لمصلحته وليس لمصلحة طبقة سياسية مذهبية، هي ضد الحياد، لانها أصلا مع التبعية وتعتاش منها وتحكم بواسطتها، وهي ضد العدالة الاجتماعية، لأن مصلحتها هي ضد مصلحة الشعب وضد اي إجراء يساهم في تكوّنه كشعب.

الحياد يسحب البساط من تحت أقدام الطبقة السياسية المذهبية التي تحكم بواسطة اللاحياد والتبعية. لكن الحياد بلا عدالة اجتماعية تؤمّنها الدولة المستقلة، يغذي الحاجة الى دعم هذه الطبقة السياسية المذهبية التي لا يمكن ان تستمر ماليا ومؤسساتيا وعسكريا بدون تأجيج اللاحياد.

يطرح انفجار بيروت في ٤ آب، تحديات كبيرة إضافية على ثلاثية البطريرك، أتوقف عند ثلاثة منها:

التحدي الاول، يتعلق بإنهيار لبنان الاقتصادي. صحيح ان الانهيار حصل قبل الانفجار، لكن الانفجار أطاح المرفأ الذي هو الباب الاساسي لاقتصاد لبنان. حياد لبنان تاريخيا لم يأت فقط نتيجة توافق اسلامي مسيحي عُبِّر عنه بالميثاق الوطني. بل أيضا نتيجة رغبة القيادة السياسية في ان يلعب لبنان دورا وسيطا، تجاريا وثقافيا، بين الشرق والغرب. ما هو مصير فكرة الحياد مع تدمير دور الوساطة هذه، الذي اكتمل بتدمير مرفأ بيروت؟

التحدي الثاني يتعلق بالمزاج المسيحي الذي مال نحو التقوقع بعد تعرض مناطق مسيحية خصوصا، بإنفجار بيروت. لقد علت بعض الاصوات تطالب بعودة الانتداب الفرنسي ووقّع نحوٌ من اربعين الف مواطن عريضةً تطالب بالانتداب. وإذا كنت أقرأ هذه المطالبة كطلب للحماية من القتل أكثر مما هي مطالبة بالاستعمار والتبعية، او محاولة للهروب من الكماشة الاميركية الايرانية القاتلة في إتجاه الملجأ الفرنسي، الا ان هذه النزعة المتجددة والمتمددة تطرح إشكالية مسيحية امام حياد البطريرك.

التحدي الثالث هو تدويل المسألة اللبنانية بعد الانفجار، من خلال التدخلات الدولية المتشعبة والمتعددة، السياسية والامنية والإغاثية. فهل ستنتج من هذا التدويل تبعية كاملة لتوافق خارجي ما، ام حياد كامل حيال جميع الاطراف؟

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم