الخميس - 25 نيسان 2024

إعلان

عين يعقوب

المصدر: النهار
نسب زكريا
عين يعقوب
عين يعقوب
A+ A-

مذ كنا صغاراً أنزعج أن الأكثرية تجهل موقع قريتي أو أنها لم تسمع بها قط، ولم أكن أحب أن أدلّ على موقعها بأنها قرية صغيرة بجوار قرى أكثر شهرة منها وأكثر رونقاً حسب ما أعتقد.

كبرتُ وتخرّجت، وعرفت خلال إحدى ورش العمل مع التنظيم المديني، من رئيسه حين قال لي "لا تقولي بعد الآن أن عين يعقوب صغيرة الحجم، هي ثاني أكبر قرى الاتحاد لديكم". وأراني ذلك بأم العين.

أفكّر الآن أني ربّما كنت أختصر حجم عين يعقوب بحجم معرفتي بها، أو ذكرياتي فيها، أو ربما بحجم العين العذبة ـ القصة الأولى من التسمية ـ التي تحتل ركنا لا بأس به، تحيطها البيوت المتكدسة والمحال، وطريق ضيّق وقصير، يبدأ بمطبّ اسمنتي غير سويّ وينتهي بمسجد الضيعة. هذا كان العين، وما زال! يسمّى الساحة، رمزاً إلى مركزيته، أضيق شوارع الضيعة، ضجيج متواصل، سيارات مركونة منذ الأبد وإلى الأبد، مطبّ غير سوي، بيوت متسلّقة وعربة خضار، تمثّل بالنسبة لنا المركزية كلها.

المقبرة، ربما أحب مقبرة القرية المرتفعة ودرجها الواسع العريض الذي تصل من خلاله إلى مقابر مجلّلة، أخرها مدافن العائلة المجاورة لمزار "يعقوب" ـ القصة الثانية من التسمية ـ غرفة طينية بسيطة لها باب لم نكن نجرؤ على فتحه وشباك مليء بشموع المتوسلين، نرى من خلاله مرقداً في الزاوية، أغراضاً، كتباً وعباءة خضراء. أمام الغرفة شجرة بلوط معمّرة ومهيبة، طعمها مرّ، وكان أخي ينهاني دوماً عن سرقة البلوط منها كي لا تطاردني اللعنة!

كنتُ احب أن عائلتي مدافنها بجانب مزار يعقوب، لم أكن متأكدة إن يعقوب كان هو نفسه النبي يعقوب كما يقال، أم أنه شخص ناسك آخر قصد قريتنا واستوطن فيها، لكنني أحببته كثيراً وأحببت أغراضه وشجرته وبركته. كنا نذهب في مواسم الأعياد، لأزور والدي لأني عرفته، وجدي لأني لم أعرفه، ويعقوب، للأسف أقلعت عن زيارته مذ أن اكتظ المكان حوله بمدافن جديدة، ما هذه الزحمة على المقابر بحق الجحيم؟ ما كل هذا الموت أمام فتاة لم تتعدّ العشرين؟ زحمة العين والشارع الضيق نفسه تطاردني، فأقلعت عن زيارة الجميع، وهجرتُ يعقوب.

حتى مدرسة القرية التي تفصلها إلى نصفين كنت أفاخر أنني لا أتعلم فيها، بل أذهب إلى مدرسة القرية المجاورة ذائعة الصيت، لأنها ذات مستوى أعلى.

جنوبي المدرسة ـ حيث أقطن ـ عالم آخر من الراحة والسكون والأحراج والخضرة والكثافة السكانية المنخفضة، بالأحرى لم يكن يسكن هناك سوى نحن وعائلتين أخريين.

هناك كل شيء لنا، أرض الله الشاسعة وصنوبرياتها وهواؤها ملكنا. ملكنا أيضاً تلّة جرداء فيها بعض كروم اللوز، قريبة من منزلنا، أرضها الصخرية كانت أنقاض مملكة لملكة تدعى هيلانة، درج في المدرسة أن تناديني معلمة اللغة الفرنسية بهذا الاسم لأني أشبه الأميرات. مرّ زمن وأن أعتقد فعلاً أني أنتمي إلى سلالة ملكية، وما زلت أحب أن أسمع هذا الإطراء حتى يومنا هذا. ما يهمّ الآن أننا لم نعد نزور التلة، مذ أن كثر الغرباء، وذهب الناطور وتفرق أفراد العائلة.

شجرة صنوبر معمرة في وسط دارنا اجتثّت بهدف التوسعة، شجرتا تين أبيض وأسود قُصّتا بهدف التنقيب عن ثروات الأرض الرملية، أي ثروة أهم من مواسم التين والعنب والجل الذي كان يفصلهما؟ كرم اللوز اختفت شجيراته، ناطور شركة المياه المجاورة لبيتنا في ذاك النصف الجنوبي، الذي كان يخيفنا توفي، كثرت المساكن حولنا، كثُرت السيارات على الطريق الرئيسي الذي يفتقر إلى مطب آخر، تماطل البلدية في تنفيذه.

لا أملك ذكريات بالكم والحجم الذي يملكه باقي أفراد عائلتي رغم ذلك أشعر بوجدانية ما عشته بعين يعقوب وفقدته

علاقتي بعين يعقوب هي فعلا ما أنكرته فيها، تماماً كعلاقتنا بأنفسنا، ليست فلسفةً، لكننا حقا نعرف ما لا نحب فينا أكثر مما نحب، وهذا شائع جداً.

مذ أن عرفت أن عين يعقوب ليست صغيرة الحجم، تغيّرت نظرتي إلى كثير من الأشياء فيها. لا أحب أن أسكنها دائماً ولا أطمح.

عين يعقوب هي حالة أعيشها، لا تدوم ولا يجدر بها ذلك، هي كل الحجم المخبّأ فيها، هي السعة وإن كانت ساحتها شارعاً ضيقاً، هي الخجل والجمال الذي لو كان لها الخيار ما اختارته، هي الرفعة وسمو شجرات الصنوبر في النصف الجنوبي من مدرستها حيث أقطن.

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم