السبت - 20 نيسان 2024

إعلان

أضحى طرابلس بلا أضاحٍ... وورق العنب لا يتخلّف عن موعده!

المصدر: طرابلس- "النهار"
جودي الأسمر
أضحى طرابلس بلا أضاحٍ... وورق العنب لا يتخلّف عن موعده!
أضحى طرابلس بلا أضاحٍ... وورق العنب لا يتخلّف عن موعده!
A+ A-

كانت طرابلس تستقبل عيد الأضحى بسبع طلقات مدفعية مساء حلوله، وبطلقتين عند كل أذان حتى عصر اليوم الرابع. وبرغم اندثار هذه العادة، حافظت المدينة على "تشريفات" عديدة، أهمها قطعان الخراف أمام الملاحم، يقبل عليها الميسورون وأبناء الطبقة الوسطى لاختيارها والتضحية بها، ثم يوزعون لحومها على الفقراء. إنه مشهد حجبه "الدولار" هذه السنة، ما حجب وجهاً مهماً للعيد في طرابلس، وبالأخص عن فقرائها الذين يتنعّمون بـ"بحبوحة" اللحم. وحده طبق ورق العنب ينقذ ما بقي من الفرح.

"ورق العنب ما بينصرن والكبة ما بتأسلم"، يقول المثل الشعبي، راسماً خريطة "جيو-مطبخية" بين طرابلس وجارتها زغرتا، ذات الغالبية المسيحية. الكبة لزغرتا وورق العنب لطرابلس. هو ضيف الشرف على موائدها التي تعدّ له العدّة ولو بخجل، فلجأت أخيراً الى حيل استطلعتها "النهار"، لمعرفة كيف ولماذا تحب طرابلس ورق العنب.

سوق سوداء لـ"الغنم"

يقف علي الكردي في ملحمة "طيبة" التي يديرها، أمام برّاد ينقل اليه لية الخروف التي قسمها لزبائن ورق العنب "لم يتراجع عددهم ولكن صاروا يشترون كميات أقل"، مشيرا الى أن الطرابلسيين ملتزمون بتدليل ورقهم بلحم الغنم، برغم صعوبة تأمينه وسعره "كأنها سوق سوداء للحم"، وقد يلجأ الزبون للعجل بسبب مرض أحدهم في الأسرة لا الغلاء.

يحصي أضحية العام الماضي التي بلغ عددها 1200، وهي الأعلى في طرابلس وربما لبنان. كان المارة يتجمهرون أمام شبه مزرعة خراف نصبها أمام ملحمته. هذه السنة، عدد السائلين الذين لا يصبحون زبائن، لم يتخطّ بضع عشرات "كيلو الكبش بـ35 ألف ليرة. حين أجيب الزبون بأن تكلفة الأضحية مليوني ليرة، ينتهي الحديث هنا".

لكن المعضلة لا تتوقف عند الطلب. فاللحامون، وعلي أحدهم، يخشون تأرجح الدولار، أو مفاجأة التصدير "إحدى البواخر التركية قد تنزل مئات الأكباش فتهبط الأسعار"، بحسب تقديره. فامتنع علي عن تكفل الاضاحي، بانتظار ما ستقرره الساعات الأخيرة، وقد تدفعه لشراء بضع أضاحٍ في أحسن الظروف.

 غلاء الخضار

نهبط نزولاً عند سوق العطارين، حيث "المسافات الآمنة" في كورونا تحققها، لسخرية القدر، قلة الزبائن.

يضع الحاج وليد أكداس ورق العنب المكبوس في براميل زرقاء. النوعية المقبولة بـ 6000 ليرة للكيلو الواحد والباب الأول بـ 10000 ليرة "لكن ربة المنزل هنا تتدبر أمورها جيدا مهما ضاقت الميزانية. ما زلت أحافظ على زبائن ورق العنب. الفارق في الكمية التي تهبط للنصف أحيانا".

تظهر زبونة فلا تكذب خبراً. يعرفها وليد ويذكر أنها تطلب عادة 3 كلغ ورق عنب، فتطلب كيلوغراماً ونصف الكيلوغرام، معلقة "يجب ألا ننسى مكونات الطبخة الأخرى. كيلو الحامض مثلاً بـ6000 ليرة." وتضيف "لا عيد بدون ورق العنب لكنني خففت الكمية".

حاضر بلحم وبلا لحم

انكماش الكميات تؤكده بسمة الشعار، وهي ربة منزل ثلاثينية افتتحت مطبخ "بسمتي"، في منزل متواضع في أبي سمراء، تسكنه مع أولادها الأربعة وزوجها والجدين.

الوضع تختصره كالتالي "من 70 كيلو ورق عنب ألفها للزبائن، انخفضت الكمية الى 13 كيلوغراماً هذه السنة"، أي أقل من الربع.

 وبسمة هي واحدة من ربات بيوت كثر، يستثمرن موهبة فطرية في الطبخ تشتهر بها سيدات طرابلس، لا سيما في طبخة ورق العنب. فينتظرن العيد ليكسبن من لفه مدخولاً اضافياً.

تستقبلنا بسمة، التي تمتلك من اسمها نصيباً، بوجه بشوش في مطبخها الفسيح والنظيف برغم تواضعه. تظهر عليه علامات الأصالة في "النملية" التي تحفظ الأكل من تقلبات الطقس. ربما هي تراث كقنديل الكاز وغيره، سيعيده انقطاع الكهرباء المتواصل الى كل المطابخ. حاولت بسمة تدارك مغبات هذا الانقطاع في ثلاجة "فريزر"، اشترتها "من اللحم الحي"، تحفظ الطعام لـ 12 ساعة بدون كهرباء. تفتحها، فتظهر لنا علب بلاستيكية شفافة، صفّت فيها أصابع ورق العنب كجلول خضراء مرتبة، ستسلمها للزبائن.

حتى اليوم، لم يتناول علماء الانتروبولوجيا أو كتب الطهي رواية تسلط الضوء على مكانة ورق العنب في المطبخ الطرابلسي. ولكن معروف أن مدناً مشرقية وأخرى في شمال أفريقيا اشتهرت بورق العنب الذي ورثته عن الأتراك. كان هؤلاء يخزنون جميع أنواع الخضراوات في الصيف ليستهلكوها شتاء، ومن بينها ورق العنب. وبسبب استهلاكهم للأرز واللحوم بكثرة، قام الأتراك بحشو ورق العنب بالأرز واللحم المفروم بطهيه وأسموه "يبرق".

في طرابلس تبقى طنجرة ورق العنب ليلة على النار، وهي خاصية طرابلسية تقلّي أصابع ورق العنب الدقيقة وتجعلها معقودة بعصير الحامض الطازج. فيشعر الداخل الى طرابلس في العيد، بأنّ غيمة من روائح ورق العنب الدسمة والشهية تتسرب من كل منزل. "أقاربنا في البقاع، وأصدقاء لنا من سوريا صاروا لا يشتهون ورق العنب إلا من عندنا. ورق العنب الطرابلسي لا يعلى عليه"، تفاخر بسمة.

واليوم تتمسك طرابلس بطبق ورق العنب باللحم في العيد، كأنه وحده العيد. فيتحايل البعض على حجم الحبة "يحاول الزبائن مغالبة الغلاء، فيوصون بتكبير الحبة لأن السعر والمجهود أقل، ويشبع أكثر" تضيف.

ولجأت بعض الأسر اليوم، الى "أبغض حلال" ورق العنب، فحرمته اللحم وصار كذابا، أي "يالنجي" بلهجته الأصلية، فأوصت بعض الأسر أن تحضر لهم بسمة لفائف محشوة بالأرز والخضار لتطهى بالزيت. بلحم أو بلا لحم، الحاجة أم "القناعة". المهم ألا يتخلف ورق العنب عن موعده.

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم