الخميس - 25 نيسان 2024

إعلان

المفكّر المغربي عبد الإله بلقزيز يُحاكي مارسيل خليفة... "أرهقتَ القلبَ بالحبّ"

المصدر: النهار
المفكّر المغربي عبد الإله بلقزيز  يُحاكي مارسيل خليفة... "أرهقتَ القلبَ بالحبّ"
المفكّر المغربي عبد الإله بلقزيز يُحاكي مارسيل خليفة... "أرهقتَ القلبَ بالحبّ"
A+ A-

توجّه الكاتب والمفكر المغربي عبد الإله بلقزيز برسالة تنشرها "النهار"، إلى الفنان مارسيل خليفة، بعد خضوعه لجراحة في القلب بأوستراليا، تكلّلت بالنجاح، نوردها بحرفيتها.

"صديقي العزيز مارسيل؛

كأنّ سُبلَ العودة إلى لبنان لم تتقطَّع بك في أوستراليا إلاّ استجابةً مبكِّرةً لنداء قلبك: النّداء الذي أَبطأ عودَتَك. لم تكن إقامتُك الاضطراريّة في أوستراليا ضريبةً دفعتها من حرّيتك لقاءَ مباغتةٍ وبائيّةٍ فاجِئة أغلقتِ المطارات والأجواء؛ كانت اسمًا مستعارًا لنداءِ قلبٍ ذكيٍّ يستشعر غدهُ واتّجاهاتِ الرّيح. قال لك، في غياهب النّفس؛ ابقَ حيث أنت، فبقيْت ولم تبارِح. من حسن حظّ قلبك أنْ قد وَصَلَ نداؤُه فأبطأْت القفول إلى لبنانكَ، لِتصْنع له – لقلبك – فرصةَ معافاةٍ نظيفةٍ من روائح الاحتمال.

يا لقلْبكَ، هذا الكائن الأبيض كثلجِ حرْمون، كم أسرجته للرّيح وأركبتَه مطَايا القلق والسّؤال. كَمْ طوَّعْتهُ لركوب مَوْج خيالِكَ الغجريِّ ودرَّبْتَه على اسْتيسارِ المُعَسَّر بالتّأْريق. لم تكن، أيُّها الصّديق، تخشى عليه فاجئات الزّمن ما دام جَأْشك ربيطا والشّكيمةُ مشتدّة، وما دام الخيالُ جامحًا في اندفاعةٍ نحو اللاّنهائيّ. حمَّلْتَه ما فوقَ الطّاقةِ والطَّوْق، ودوزنتَ أوتارهُ وأَرسَلتهُ على مقام جمُوحِك اللاَّيُحَدّ. كُنتَ بأصابعك تنقُر على الشَّغاف؛ تطْرُق أبواب جهاته؛ تقَطِر قفيرهُ لتَخُطَّ بالسّائل ما عنّ لكَ من بهِيِّ السَّرد الموسيقيّ. وماذا بعد؟ أدفَأْت قلوبًا بما فَعَلْتَ وحِفْتَ على قلْبك حَيْفَ عاشقٍ يهبُ بسخاءٍ ما يَملُك.

نعم يا صديقي؛ أرهقْتَ قلبك كثيرًا: أرهقتهُ بالحبّ؛ بالبحث عن جمالٍ فوق الجمال؛ عن جوابٍ مستحيلِ الولادة من رحم السّؤال؛ عن وطنٍ أعلى من الوطن؛ وعن شعبٍ ضائع في مستنقع الوحل. لا بأس؛ ذلك من جنون الإبداع ومن عذوبته ورسالته، وقد غنمْنا من جنونك الإبداعيِّ العذبِ فصوصًا من الجمال الموسيقيّ الأخّاذ عزّ لها النّظير. لم يخذلك قلبُك وأنت تأخذُه إلى هذا البعيد و لا هو من طلبٍ تبرَّم، لكنَّك لم تنتبه إلى أنّ الطّرقات إليه تنسدُّ، شيئًا فشيئًا، فتسُدّ عليه مجرى السّائل الحيويّ ، وأنّك أنتَ من يسُدّها عليه بِحِمْلِك الثّقيل الذي تَحْمل؛ بالأسئلة التي على الرأس تنهمر وفي أغوار النّفس تستقر. وقلبُك لكَ؛ جهازُ حبِّك هو، ومنبعُ إلهامكَ، وهو رديعةٌ أنت مسْتأمنٌ عليها من عاديات الزّمن. ولكنّ قلْبكَ لغيركَ أيضًا: ملكيّةٌ جماعيّةٌ لك منها الحصّةُ الشخصيّةُ التي تحتاج، وما تَبقّى للنّاس الذين يقولُهُم ذلك القلب: الذين يفرَحون لفرحه، ويحزنون لحزنه، ويتغذّون من مخزون عواطفه... وعواصفه؛ فلا تأخُذْ منه ما ليس لك.

في الأشهر الأربعة الأخيرة التي قضيْتَها في أوستراليا، في بيت ابنِك الفنّان رامي، وقضيْناها جميعًا في جحور الحَجْر الصّحيّ التي انْجحرْنا فيها مكرهين، كنتُ أستشعر من مكالماتنا الهاتفيّة المطولة، التي لم يخلُ أسبوعٌ واحد منها، المقدارَ الهائلَ من القَلَق الذي يسْكُنك؛ الذي يُفصِح عن نفسه في أسئلة الوجود والحياة والموت والمعنى؛ في شعورك الحادّ بوجوب نَقْل هذه الأسئلة الفلسفيّة إلى حيّز التّأليف الموسيقيّ، في تهجّسكَ المستمرّ بالعلاقة بين اللّغة الشعريّة واللّغة الموسيقيّة. لكنّ أَوعرَ الأسئلة التي سَكَنَتْ رأسَك وأَسهدتكَ في موجاتٍ من التّأْريق، عزّتَ معها الهجعَة بلِ الهَدْأةُ، هو السّؤال عن مستقبل وطنٍ هو لبنان.

السّؤال الذي حَمَلَتْكَ عليه يوميّاتُ الاعتداء على قُوت النّاس ومعيشِهم، مثلما حملكَ عليه الشّعورُ المُمِضّ بفداحة ما يقود إليه النّظامُ الثّقافيّ والنّفسيّ الطائفيّ من استدراج النّاس إلى الوقوع في أحابيلِ وشرانِقِ سادةِ هذا النّظام وزعمائه. وكانتِ الحسرةُ على لسانِك كلّما أتينا على استذكار عصر الحركة الوطنيّة اللبنانيّة قبل أربعين عامًا؛ فكانتِ المقارنةُ وحدها بين زمنين تكفي لتُشعِل مِلْحَ الخيبة في نفسك، فتفتح على القلب عواصف الأسى والحَزَن. وأنا لستُ أنسى كيف شُغِلْتَ بسؤال الفارقِ بين الاشمئزاز والقَرَف؛ كيف بغيتَ أن يكون الغضبُ شريعةً مشروعةً في يوم النّاس هذا؛ بل كيف لم تتردّد في الدّفاع عن مفردات اللَّعن والقَذْع ضدّ مَن سرقوا السلطةَ والثّروةَ والقُتَ والكرامةَ من الشّعب والفقراء، وعن الحاجة إلى قذف حممها في وجوههم. كنت غاضبًا كما لم أركَ قبْلاً,

كنتُ أوثر أن أخفِّف الوطأة عنك بأن أقول، مثلاً، إنّ ما يجري في لبنانَ فولكلور سياسيّ مألوف منذ ابتداء حربه الملعونة. كنتُ أعزّيك بأنّك والحركةَ الوطنيّة لستم مسؤولين عن هذه المصائر، وأنّكم جرّبتم – بكل الصّدق والتّضحيّة - بناء وطنٍ لا مكان فيه لولاءات غير الولاء له، وتصنيعَ شعبٍ لا يتبعّض إلى أَبْعَاضٍ طائفيّة بل يجتمع على هويّةٍ وطنيّة جامعة ويتوحّد في الدّفاع عن الأرض والحقوق. عبثًا كنتُ أحاوِل التّعزيّة؛ فالطريق إلى القلب كانت قد ازدحمتْ بعظائم الهموم، والسّائل الحيويّ انسدّ عليه مجرى الدَّفق في ذلك الزِّحام الخانق. ولولا ذكاءُ القلب الذي نبّهك، في الهزيع الأخير من معاناتك، لكنت أذهبت هذا القلب وذهبْتَ معه وأذهبتنا معكما.

هنيئًا لك، يا صديقي، هذا القلبَ الذّكي. هنيئًا له الطّرق التي عبِّدت له ليمرّ الدّم والحياة والحبّ؛ كما أنتَ تقول. هنيئًا للفنّ والموسيقا والجمال بالسّلامة من ضربةٍ فاجئة أخطأتِ الهدف. هنيئًا للملايين الذين شبّوا معك وشابوا في رحلتك الفنيّة التي وزّعْت فيها خبزًا روحيًّا على النّفوس. اعْتذِر لقلبِك، يا صديقي، والْتمس منه صفحًا على تعبٍ وحبٍّ غزيريْن". 

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم