الجمعة - 19 نيسان 2024

إعلان

عون وشهاب وقصة "إبريق الصلاحيّات"

المصدر: "النهار"
جورج عيسى
عون وشهاب وقصة "إبريق الصلاحيّات"
عون وشهاب وقصة "إبريق الصلاحيّات"
A+ A-

الجملة الافتتاحيّة ليست لعون على الرغم من أنّها كانت مطلباً مباشراً له خصوصاً قبل وصوله إلى سدّة الرئاسة. هذه الجملة هي للرئيس الأسبق فؤاد شهاب حين رفض طلب مؤيّديه الترشّح إلى انتخابات 1970 الرئاسيّة.

وهذا ما نقله الإعلاميّ والناشر أنطوان سعد في كتابه "مسؤوليّة فؤاد شهاب عن اتّفاق القاهرة"، عن مذكّرات الوزير السابق فؤاد بطرس الذي ناقش شهاب مراراً لدفعه إلى الترشّح. لكنّ الأخير رفض ذلك مكرِّراً هذه الجملة في "مجالسه الضيّقة جدّاً".

يتابع سعد ناقلاً ما جاء في المذكّرات*، فكتب أنّ شهاب قال لبطرس: "(...) إذا كانوا يريدون عودتي والسعي جدّياً لإصلاح الأمور فعلاً، فليحرجوني عبر تعديل الدستور بشكل يجعلني حاكماً وليس فقط المسؤول الذي يحمل وزر المشاكل ولا يملك فعليّاً زمام الحكم."

إنّ تذمّر شهاب من محدوديّة صلاحيّاته يؤكّد أنّ إعادة صلاحيّات ما قبل الطائف إلى عون أو إلى أيّ رئيس مستقبليّ لن تكون الترياق لمشاكل لبنان. صحيح أنّ شهاب طالب بصلاحيّات أكبر لضبط انفلات الأمور في المخيّمات الفيلسطينيّة وخارجها، فيما يطالب عون بذلك لانتشال لبنان من أزمته الاقتصاديّة. لكنّ هذا الاختلاف لا يمحو أنّه في كلتا الحالتين، برز رئيسان لبنانيّان ممتعضان من حتميّات واقع بديهيّ يفرض نفسه على المسؤولين في الأنظمة التشاركيّة.

قد يكون هنالك توق علنيّ أو ضمنيّ لدى بعض المسيحيّين المؤيّدين للرئيس إلى تحويل نظام الحكم إلى رئاسيّ. لكنّ هذا النظام يناسب المجتمعات المتجانسة لا تلك المركّبة كما هي الحال في لبنان. فتحويل النظام البرلمانيّ إلى رئاسيّ يعني إبعاد طائفة بأكملها عن التمثيل، بما أنّه يفرض إلغاء منصب رئيس الحكومة، كما حصل في تركيا سنة 2018 بعد التعديل الدستوريّ. والأمر نفسه ينطبق على الولايات المتّحدة، حيث لا منصب لرئاسة الحكومة وحيث الوزراء مسؤولون أمام رئيس البلاد وحده. علماً أنّ الصلاحيّات التنفيذيّة التي سُحبت من الرئاسة بعد الطائف أعطيت لمجلس الوزراء مجتمعاً. قد يكون تشتّت الصلاحيّات وبالتالي المسؤوليّات، واحداً من أبرز المساوئ للأنظمة التشاركيّة. لكنّ البديل عن هذه الأنظمة في المجتمعات المركّبة عادة ما يكون أسوأ.

ثمّة فارق آخر بين العهدين. استطاع الأوّل أن يبني مؤسّسات عدّة مثل هيئة التفتيش المركزيّ ومجلس الخدمة المدنيّة والمجلس الوطني للبحوث العلميّة والصندوق الوطني للضمان الاجتماعيّ ومصرف لبنان المركزي، وتعاونيّة موظّفي الدولة. بينما اليوم، يشهد لبنان انهياراً ماليّاً يؤثّر على غالبيّة هذه المؤسّسات وغيرها. لم يستطع شهاب تحقيق الإنجازات لأنّه امتلك صلاحيّات أكثر من صلاحيّات عون. على الأقلّ ليس هذا هو السبب الأساسيّ.

تحقّقت تلك الإنجازات بسبب قدرة شهاب على تحييد لبنان نسبيّاً عن صراعات المنطقة. لم يكن هذا الهدف سهلاً حينها، ولا هو كذلك اليوم. لكن من ناحية الافتراض الجدليّ، يمكن التساؤل عن الصورة التي أمكن أن يكون عليها لبنان حاليّاً، لو كان عون أكثر توازناً في علاقته بين "حزب الله" من جهة، ودول الخليج العربيّ من جهة أخرى. لو كانت الدولة الرسميّة تقف ضدّ تدخّل "حزب الله" الأمنيّ في تلك الدول، أقلّه على صعيد البيانات، لما كانت الأخيرة قد قاطعت لبنان في الشق الاستثماريّ والسياحيّ إلى هذا الحدّ وفي هذا التوقيت. والاستثمارات الخليجيّة تشكّل أكثر من 70% من نسبة الاستثمارات الأجنبيّة. ولكان الرئيس، بصلاحيّاته الحاليّة نفسها، قادراً على إبقاء متنفّس أساسيّ لإمداد القطاعين العام والخاص بخطّ إنعاش حيويّ.

لا يعني هذا الافتراض أنّه بإمكان لبنان أن يسلك دربين في الوقت نفسه وإلى ما لانهاية: درب الاتّكال على الدعم الماليّ الخارجيّ، ودرب الاستمرار في الهدر وإرهاق القطاع العام بالمنتفعين والتغاضي عن تآكل البنية التحتيّة وعن تحفيز القطاعات الإنتاجيّة. فالاصطدام بجدار الأزمة الاجتماعيّة كان سيحدث عاجلاً أم آجلاً مع استمرار آليّة الحوكمة نفسها.

لكن بالتأكيد أمكن العهد أن يؤجّل هذا الاصطدام لو حمى لبنان من العزلة عن العالمين العربيّ والدوليّ. وأمكنه بالتالي أن يستخدم هذه الحماية في تهيئة البلاد لمرحلة انتقاليّة أكثر سلاسة وأقلّ ضرراً. لكنّ كلّ ذلك لم يحصل لأنّ الرئيس رفض انتقاد تدخّل "حزب الله" في الدول الخليجيّة، وليس لأنّ صلاحيّاته لا تسمح له بذلك. لا يعني هذا الأمر أنّ مسألة الصلاحيّات هامشيّة. لكن بالمقابل لا يمكنها أن تكون عذراً لكلّ تعثّر تعاني منه البلاد.

تُعدّ صياغة علاقات خارجيّة متوازنة في صلب النهوض باقتصاد داخليّ متين. لقد حصر الرئيس التركيّ رجب طيب إردوغان صلاحيّات كثيرة بين يديه بعد تحويل نظام الحكم إلى رئاسيّ. وفي الوقت نفسه، يمتلك غالبيّة نيابيّة في البرلمان التركيّ تخوّله الحكم بأريحيّة ومن دون معارضة جدّيّة لسياساته. ومع ذلك، لم يصبح الوضع الاقتصاديّ لتركيا أفضل اليوم، حتى مع وضع جائحة "كورونا" جانباً، ممّا كان عليه قبل التعديلات الدستوريّة. ويعود ذلك – جزئيّاً – إلى سياساته الخارجيّة غير المتوازنة، خصوصاً علاقته المتوتّرة بالولايات المتّحدة.

في إحدى مقابلاته الإعلاميّة، يذكّر الناشط السابق في التيّار الوطنيّ الحرّ المحامي أنطوان نصرالله، بأنّ الجنرال عون كان يتوجّه للنواب ومن ورائهم الشعب بالقول: "إذا لم تنتخبوني رئيساً فستريحونني لكنّكم ستُتعِبون أنفسكم. وإن انتخبتموني فستُتعبونني لكن ستريحون أنفسكم."

اليوم، لا الرئيس مرتاح ولا الشعب. لكن ثمّة فرصة، خلقتها هذه المرّة بكركي: صرخة الالتزام بالحياد. كيفيّة تعامل الرئيس معها ستحدّد الكثير ممّا تبقّى من ولايته. ومرّة أخرى، لن تكون النتائج مرتبطة بمحدوديّة صلاحيّاته.
_____________________________________________________________

*الطبعة الثالثة من مذكرات فؤاد بطرس صادرة أيضاً عن دار سائر المشرق وقد أعدّها وكتبها الناشر أنطوان سعد.

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم