الخميس - 25 نيسان 2024

إعلان

كتاب - "جسر الجميلات" لحنان درقاوي: الاستلاب ونزف الحياة المستأصلة

جينا سلطان
A+ A-

في رواية "جسر الجميلات" تروي الأديبة المغربية حنان درقاوي تفاصيل الاجهاض السري المتواصل للحياة الإنسانية، تحت سقف القهر والعنف الأسري المزمن. وتوشح فصول سيرتها الذاتية بأغنيات رقيقة، تغلف ذكريات الطفولة برقة شفافة، تقنص أوقات السرور النادرة من قلب الألم، لتقص حكاية طفلة عاشت في عالم الاخيلة كي لا تواجه الواقع اليومي القاسي، ومأساة انثى تعثرت طويلا في جسد امرأة.


تدور حبكة الرواية حول الأسباب الكامنة في جوهر الشخصية، التي تدفع الإنسان لإدمان العنف بشكليه الجسدي والمعنوي. فكيف يمكن تفسير ارتهان أستاذة الفلسفة المثقفة، والصحافية ذات الحياة الاجتماعية الحافلة بالنضال من اجل حقوق المرأة، لرجل جاهل يبتزها ماديا ويحولها إلى عبدة تستمرئ الإهانة والخزي والتحقير، لينتهي بها المطاف مطرودة بالبيجاما في الشارع في منتصف الليل البارد، فيستولي عليها ضحك هستيري عنيف طوال ساعتين انتظرتهما على درج العمارة المتسخ في حي المنسيين بمدينة ليميرو الفرنسية، لتتنقل زمنا بين بيوت الاصدقاء برفقة ابنتيها، قبل أن تقرر الذهاب الى ملجأ النساء المعنفات، ما يعني قبولا بقدر المرأة المعنفة، واعترافا جزئيا بالمشكلة الحقيقية.
كبرت الطفلة في واحة كانت تجف يوما بعد يوم، مثل قلوب البشر التي اشتعل فيها القحط، فنابت عناصر الطبيعة المحتضرة محلّهم، وسربت للنفس الحنان الغامر والرحمة المفتقدة، وأرست لبذور أمل يثبت العقل كلما اهتزت نواميس الآخرين وجنحت نحو العنف المفرط، ولون هاجس الجنس المبهم في تلك الفترة الألعاب الطفولية، وأسس لذاكرة التعويض العاطفي. أما الترحال من منزل إلى آخر فألغى الحنين، وأفقد الشخصية التماسك اللازم للتوازن، وتعمق الشرخ بطقوس السخرية التي مارسها الأب بسادية غريبة على أبنائه، بدفعهم للهزء بعضهم من البعض الآخر وصولا إلى البكاء، فبذر الأحقاد والضغائن بينهم. بذلك لوّن التيه حياة حورية؛ التيه بين البيوت والمدن المختلفة، التيه في ارضاء رغبات اب طاغية وام صامتة، التيه بين اناس كثيرين تتعلق بهم ثم يتوارون. والأسوأ تجسد بالتخبط في متاهة الإيحاء المتكرر بقبح الهيئة، الذي فرض نمطا خاصا من العلاقات بالعالم وبالآخرين.
كان اسعاد الضيوف هو الواجب الحقيقي للأب والام، فيما تربية الأبناء وقضاء حوائجهم أمر ثانوي. فقد ابتلي الأب المثقف بجنون العظمة، فنسج لذاته أسطورة كرم حاتمي، ليغطي فقر النشأة الأولى، مجردا أسرته من أبسط حقوقهم الإنسانية. فجعل كل بيت سكنوه اشبه بمحطة القطار لا تنقطع فيه الزيارات، فقضت حورية طفولتها ومراهقتها، وهي تحصي بهلع أكياس المؤونة المتناقصة. وبينما تكيّف الجميع وفق انفجارات الغضب اليومية للأب، فإن المدرسة منحت الصغيرة وجودا مضاعفا من خلال كتابة المواضيع الإنشائية وغواية الحروف العربية، عوض قمع المشاعر ومصادرتها. فالرغبة الوحيدة المتاحة في البيت كانت رغبة الاب ودراساته الخيالية وشغله واصدقاءه. هذا التغيب التام أعطى الواقع صفة الخدعة، وجعل الحياة الحقيقية في مكان آخر. فكانت السنوات التي أمضتها لاحقا مع الهيبيز من اجمل سنوات حياتها، واكثرها احلاما. بقي المكان الوحيد الذي وجدت فيه الدفء بصحبة المهمشين والمقهورين، فتبادلت معهم السجائر ولفافات الحشيشة التي أنستهم العالم بأسره. ولكي تتغلب على قلقها البدائي من غياب الوجود، راكمت المغامرات وبدلت العشاق، متكئة على الهامش الضيق الذي يتيحه الجنس لتجاوز الوحدة والخواء، فالمشاعر دنيا لم تعرفها والحب لغة لم تفهمها، والحياة متعة لحظية فقط.
افتقدت حورية حنان الام وعطف الاب، وترنحت في ظل غياب تربية واضحة المعالم، فتهيأ لها استعداد فطري للانحراف، عززته تصرفات الأم الحاقدة على ابنتها. وفيما كانت شخصيتها الظاهرة تخط حياة امرأة حرة، توجه عقلها الباطن نحو طبيعة انفعالية سريعة التقلب، تستكين بألفة لسلطة ذكورية مفرطة في العنف، كان من تداعياتها أن خاضت تجربة أمومة وطلاق في سن التاسعة عشرة، أعقبتها مضاعفة الضغوط الأسرية المنهكة. اكتملت الدراسة الجامعية مقابل المزيد من التنازلات، فانعكس ذلك ازدواجا وتمزقا في الشخصية، بين امرأة حرة مستقلة ماديا ومثقفة، وامرأة تقليدية تتشبع من فكر الطاعة والخضوع لأبويها واخوتها. هذا التمزق دفعها إلى أحضان زواج جديد بعد اربعة عشرة عاما، تنازلت بموجبه عن مكانتها الاجتماعية في وطنها الأم، لتغدو امرأة معنفة في ضواحي باريس الهامشية، حيث عاشت في دوامة العنف والخوف والاحساس بالخزي ثلاث سنوات، ثم تشردت وذاقت مذلة الحاجة، حتى استقر وضعها في مكتبة مدرسية، فقبلت مواصلة العلاج النفسي عشر سنين، كي تتحرر من تبعات تاريخها الأسري، على رغم استحالة الشفاء التام من حياة كاملة من الالم، إذ لا يمكن ملء الفراغ الذي يمثله حجب عاطفة الابوين وخاصة عاطفة الأم التي تمسك مفاتيح النجاح في الحياة، وبذور المخزن العاطفي الذي سيثمر آفاقا جديدة في مرحلة البناء. من هذا المنطلق تسمي حورية الدعارة شكلا من اشكال النكوص الى مرحلة الطفولة، حيث يتمثل الانتقام في حجب الحب والعواطف عن الرجل وجعله يدفع، بينما تجد في الفكر الجهادي أحد التعبيرات الدالة على قلق الرجال على فحولتهم من نساء متحررات عقلا وجسدا.
كان أهم درس تعلمته درقاوي، هو اسقاط دور الضحية، ومغادرة ثالوث "الجلاد، الضحية والمخلص"، الذي بقيت أسيرته طوال حياتها، وهو ما مكّنها من التصالح مع ذاتها وفهم الاستلاب بوصفه عملية معقدة من اضعاف الشخصية وتحطيمها، من خلال الكلام والايحاء وتكسير الارادة، ما يولد ضبابية الرؤية، واختلاط الامور في ذهن الضحية، بين احساس بالذنب والخوف من الجلاد وتعلّق غريب يخلقه العنف ذاته، يماثل في قوته الرابطة العاطفية، فتشعر الضحية بفراغ داخلي وبغياب قيمتها الداخلية، ما يجعل الرواية جسرا للعبور نحو توهج المحبة الذاتية، وحصانة ضد تداعيات الإلغاء المبطن لخدعة القبول المجتمعي.

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم