رحلَ دافيد... خيبات العمر والمهنة
قلبي يخفق منذ الصباح بشكل غريب. فضلاً عن كل المآسي التي نعيش، هزّني في العمق خبر رحيله. انكسر شيء ما هنا في الداخل.
لا أرغب في رؤية أحد أو الحديث. اكتفيتُ ببضع مكالمات مع أصدقاء مقربين. صرختُ حيناً، بكيتُ أحياناً ثم صمتّ.
نحن العاملين في الوسط الإعلامي، وخلف الكاميرا تحديداً، نعيش كل شيء- لاسيما تحديات المهنة - بشكل مضاعف.
وإذا كان الإعلامي أو المقدم قادراً على التنفيس عبر "نجوميته" أو احتكاكه مع الناس، بيقى لنا نحن الشغف.
نشعر بطعم الإنجاز حين تقدّم الشاشة عملاً جيداً. ونعيش الخيبات حين تكثر الويلات على الشاشة نفسها.
نحن العاملين خلف الكاميرا، المنسيّين غالباً، نعيش شغف المهنة بقدرٍ يجعلنا نحتمل كل الاجحاف بحقنا.
نحن العاملين في العتمة، لا نحب الضوء. نعيش جنوننا في العتمة. جنون يجعلنا نؤمن أن التلفزيون- أو صندوق الدهشة- لا يزال قادراً على صناعة التغيير، على إحداث الأثر، وعلى تقديم بعض النوعية في زمن الرداءة في كل شيء. هذا في المبدأ. أما في الواقع، فالمشهد تغيّر تماماً. حاله حال البلد. تبدّلت المهنة كثيراً. تبدّل ناسها. لم يبقَ فيها سوى بعض الوجوه الجميلة. "الناس الحلوة" قلّة قليلة في الوسط. وبين هذه القلة، يأتي دافيد لطيف.
كل من مرّ في أيام عز تلفزيون "المستقبل" يعرف دافيد. كل من حمل مشروعاً إلى مكاتب mbc في بيروت، لا بدّ أن جلس معه. كل من اشتغل في ورشة إبداعية جميلة، احتكّ به حكماً.
مختلف جداً دافيد. مثقف من الطراز الأول. حساس تجاه التفاصيل الصغيرة. دافيد من الناس الذين يجعلونك تحترم مهنتك، رغم كل التفلّت في المعايير والانحدار في المستوى والضياع وسط "سوق الباله" التي تعجّ به صناعة التلفزيون في السنوات الأخيرة.
تقول الرواية، وبلسان زملاء مذهولين بالخسارة، إن سبب الوفاة أول من أمس جلطة قلبية. هكذا إذاً، خانك القلب يا صديقي. قلبك نفسه الذي كان يضجّ حبّاً وحياة، قرّر الصمت إلى الأبد. استسلام؟ تعب؟ استراحة؟ قهر؟ كل ذلك معاً؟
كيف لا يخونك القلب وسط كل ما نعيش يا دافيد؟ من أين أبدأ يا عزيزي؟ البلد الذي يموت؟ الاجحاف الذي تعيشه المهنة؟ المؤسسات الإعلامية التي يضيق فيها حتى النفس؟ المشهد المخزي؟ الاحباطات؟ الإنكسارات؟ جنى العمر الذي سرقه لصوص السلطة والمصارف؟
ما الذي يجعل ذلك القلب يخفق أصلاً يا دافيد؟ الأمل؟ بماذا؟ بمن؟
رحيل دافيد اليوم خسارة مدوّية. ليس للإعلام فحسب. ليس للصناعة التلفزيونية العربية فقط. إنها خسارة لمن بقي يناضل من "الناس الحلوة" في مهنة باتت بشعة جداً.
أتذكّر جيّداً حديثنا في أحد اللقاءات القليلة التي جمعتنا، عن أناس يحضّوننا على الإبداع. أنتَ كنت واحداً منهم يا دافيد. أنت ممن كانوا يجعلونني أتمسّك بالقلم، أنا الذي لا يعرف سبيلاً في الحياة إلا هذه المهنة.
نحن العاملين في الوسط الإعلامي، وخلف الكاميرا تحديداً، نعيش الأشياء بشكل مضاعف. حزني كبير جداً. خسارتك تضاف إلى كل الخسارات السابقة. الأرض باتت خانقة يا دافيد. اجعل روحك تنفض جناحيها عالياً في السماء. حلّق يا عزيزي. وكلما سمعت أحدهم في الأرض يتحدث عن العدالة في هذه الحياة، ارسم ابتسامة خجولة كما تفعل دائماً ثم اضحك. لروحك السلام ولزوجتك وعائلتك الصبر.... وعلى المهنة السلام!