الثلاثاء - 23 نيسان 2024

إعلان

بين الطاعون والكورونا توقّعات لألبير كامو

المصدر: النهار
نسرين بلوط
بين الطاعون والكورونا توقّعات لألبير كامو
بين الطاعون والكورونا توقّعات لألبير كامو
A+ A-

 سبق أن كتبتُ عن رواية "الطاعون" لألبير كامو قبل حلول موسم الكورونا وما تبع تلك العلّة من آفات جسيمة تغلغلت في ثنايا بيئتنا ومجتمعنا حتى النخاع، وخلّفت آثاراً من الاحتدام والصراع النفسي العميق.

عند قراءتها للمرّة الثانية، وقد حُجز أغلب الناس في بيوتهم وتجمهروا حول هواياتٍ عافوا عن ممارستها منذ زمن أو استغلّوا الوقت الطويل لتجاوز محنتهم من خلال القراءة أو الرسم أو الغناء أو حتى الطبخ، تمثّل لي عامودٌ منتصبٌ معلّقٌ بين الماضي والحاضر في أفقٍ مخضوضبٍ بالوجع والآلام المبرحة، فقد توغّلت الرواية في تحفيزٍ ميلودرامي وجودي حول عقدة الدراما والانطوائية الفادحة التي عانتها مدينة وهران في زمنٍ تهاوت فيه معنويات الفرد أمام افتقار الطب للتقدّم والاكتشاف، واستسلم الناس لمصائرهم في صمتٍ مبرح الصدى، ولكنّها تصلنا بعالمنا الحالي بجسرٍ من المقاربات والحواشي النصيّة التي تطبّق على الأفعال والأقوال في زمننا الحالي.

المكان هو وهران، المدينة الجزائرية التي كانت مقاطعة فرنسية تكادُ تكون مجرّدة، حسب وصف الكاتب، من رموز الجمال وقدسية الطبيعة الخلّابة، ولا تزورها الشمس إلا في ظلالٍ قاحلة الآماد، تغتالُ النهار في قحطٍ مسمّرٍ على جدران الوقت الذي يستغلّه أبناؤها في عملٍ دؤوبٍ مستمر، ولا تبتهجُ ملامحها إلا في ساعات المساء حيث يقضيها الناس في صخبٍ ومرجٍ بين المقاهي ودور السينما والمنتزهات.

تبدأ الحكاية، حسب الراوي الذي لا يكشف عن نفسه إلا في نهاية القصة، عندما يبصر الدكتور ريو، بطلها الأساسي، والذي ودّع لتوّه زوجته العليلة التي ذهبت للعلاج في مصحّة في الجبل بسبب إصابتها بمرضٍ رئوي، فئراناً ميتة قرب مدخل مسكنه فيشكّك بالأمر ويقوم بالتحرّي عن الموضوع من البوّاب الذي يصبّ اللائمة على فتيان الحي اللاهين، ولكنّ الأمر يتطوّر ويزداد عدد الفئران النافقة التي تموت بشكلٍ مريب وبأسلوبٍ موجع، حتى ينتقل الوباء منها إلى الإنسان وتكون أوّل ضحية في عالم الدكتور ريو هو البوّاب نفسه الذي يصاب بحمى وقيء وتشنّجاتٍ متصلّبة تشكّل عِقَداً في جسده، ليلفظ أنفاسه في جحيم عذابٍ مرير يسمّره في نعش الآلام الدامية.

تتردّد الحكومة وتماطل في الإعلان عن طبيعة المرض بعد تأكيد الطبيب ريو للجنة الأطباء خلال اجتماعٍ طارئ بأنّه الطاعون بعد إجراء فحصٍ مخبري لأحد المرضى، وأنّ الاحترازات الأساسية يجب أن تتّخذ فوراً بلا أي تأخير، ولكنّها تسلّم في آخر الأمر وتوافق على اقتراحه في أن تغلق أبواب المدينة وأن يُفرَضَ حصارٌ عليها لاحتواء المرض ومواجهته في صلابةٍ وتأنٍّ وحذر. وهنا تحتشدُ وجوهٌ ترافق الطبيب ريو في رحلته الصعبة لمكافحة الوباء، منها صديقه تارو الذي وفد إلى المدينة قبل حلول المرض ونشأت بينهما صداقة عميقة، فأفضى إليه الأخير بسرّه بأنّ أباه كان محامياً عاماً وقد اصطحبه ذات يوم بعد بلوغه سنّ الشباب إلى المحكمة ليشاهده وهو يباشر عمله علّه يقنعه بالالتحاق بسلك القضاء، فأصيب بعقدة نفسية غرزت مخالبها في أعماقه بعد أن شاهد والده يطالب المحكمة بإعدام متّهمٍ جاحظ العينين زائغ النظرات يرتدي الزيّ الأحمر وقد ارتعدت فرائصه بذعرٍ فاضح.

يصمّم تارو على مساعدة الطبيب من خلال عملٍ تطوّعي في تنظيم فرقٍ صحيّة تساعد المرضى وتراقب تطوّر حالتهم الصحيّة. ويتعرّف إلى "كوتار" الرجل الذي سبق له أن حاول الانتحار ولكنّه نجا بأعجوبة، ويقنعه بأن ينضم للمساعدة، كما يستطيع أن يضمّ إلى الفرقة "رامبير" الرجل الفرنسي العاشق الذي حوصر في المدينة بعد أن أغلقت أبوابها وقرّر الهرب ولكنه عدل عن الفكرة لشعوره بالانتماء الضمني مع سكّان وهران، ووجوب مشاركتهم معاناتهم التي بات هو جزءاً منها.

هذا الوباء الجماعي الذي نزع عباءة الرأسمالية عن المجتمع المنحاز للأرستقراطيين، وساوى بين أفراد الشعب، عبّر الأب نابلو، وهو كاهن المدينة، عن وجعه منه، وحاول توجيه الناس إلى العبادة، ولكنّ مشاهدته لطفلٍ في مرحلة الاحتضار الأخير ينهاه عن حماسته الفائقة، فنراه متردّداً بين تقمّصه لأحاسيس الإيمان وتساؤلاته المريرة حول الموت والعلم، ويموت في الرواية وهو يرفض الاستعانة بطبيبٍ لعلاجه.

هذه الوجوه التي تتعلّق بحبال الصبر والخذلان في الرواية بين وافدٍ إلى المدينة ومقيمٍ فيها، تجمعها الغربة في سلالٍ من الوجع اللامرئي، وتنفذ شظاياها إلى العمق، فيصمد رامبير حتى تنحسر ظلال الطاعون السوداء وترجع إليه حبيبته في أول قطار يصل إلى المدينة بعد فتح أبوابها، وتقبض الشرطة على كوتار الذي يحاول الفرار وإطلاق النار على عناصرها، ويموت تارو بالطاعون نفسه بعد أن قدّم جسده قرباناً لإنقاذ غيره، وأعطى من ملكوت إنسانيته الرحمة والعطف، ويكون بموته قد وصل إلى حلمه المنشود بالارتقاء إلى عالم القدسية الأعلى، وقد مات بين يدي صديقه الطبيب وفي منزله وحضور والدته وكانت ابتسامته ذكرى تحتضنها الجدران التي شهدت على ذكرياتهما معاً.

أما الطبيب ريو فتصله برقية من المصحة التي وفدت إليها زوجته للعلاج تنبئه بوفاتها فيستقبل الخبر بابتسامة شاحبة ترسو في ميناء أحزانه من غير دهشة لأنّ الطاعون قد سرق أيّ دهشة محتملة من النفس. ويقرّ في النهاية بأنّه هو نفسه راوي تلك القصة ولكنّه اختار ألا يفصح عن نفسه منذ البداية حتى ينأى عن الانفعالات الفردية والمبالغة المفرطة كما قال الفيلسوف الروماني أميل سيوران:"المرض منفذ لاإرادي إلى ذواتنا يجبرنا على التوغّل في العمق، ويحكمنا به بعد البحث سدى عن بلد تنتمي إليه، ترتد إلى الموت، حتى تتمكن في هذا المنفى الجديد، من الإقامة كمواطن".

ازدحام التشابه بين العصرين، وبين مرضَي الكورونا والطاعون بوقعهما النفسي والجسدي على البشر، وبالحصار الدامي الذي فرضه كلّ منهما، ينبئنا بكاتبٍ خطير كتب رواية "الطاعون" وتنبّأ لنا بما سيجري حيث قال في نهايتها: "ما يمكن قراءته في الكتب أنّ جرثومة الطاعون لا تموت ولا تختفي قط، وأنها تستطيع أن تظل عشرات السنوات نائمة في الأثاث والملابس، وأنها تترقب بصبر في الغرف والأقبية والمَحافظ والمناديل والأوراق التي لا حاجة لها، وأن يومًا قد يأتي يوقظ فيه الطاعون فئرانه، ويبعث بها إلى الناس من أجل شقائهم وتعليمهم، لكي يختطفهم الموت بين أحضان مدينة سعيدة".

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم