الأربعاء - 24 نيسان 2024

إعلان

درس البيولوجيا

المصدر: "النهار"
رضا نازه- المغرب
درس البيولوجيا
درس البيولوجيا
A+ A-

صباحٌ ربيعي يخالس المدينةَ الحمراء بعضَ الرطوبة قبل حر الضحى. توقف عبد الحي عند سطر يرقات موكبية يزحف على سبورة الإسفلت. ما دخلها هناك؟ بل ما دخل الإسفلت في طريق هجرتها الموسمية العريقة إلى حيث تتزاوج أو تبيض أو تتنزه جسدا تلو جسد. كان السطرُ منقطعا. عجلاتُ سيارة عمياء داست مقدار شبر من مقدمة الموكب فتوقف المسير. ما العمل؟ اليرقات التابعة لا تدري كيف تتجاوز جثث قيادتها ولا كيف تتأخر. التفت عبد الحي يمينا وشمالا. لا سيارة في الأفق. عبر إلى الرصيف وتناول إبرة من إبر شجرة صنوبر منتصبة، قد انفرجتْ عروشها مثل شمعدن عملاق ظليل. عاد لمقدمة الموكب. سلك الإبرة برفق تحت اليرقة الأولى الناجية. حرَفَ مسارَها عن الجثة أمامها، تحركت اليرقة ودبت الحياة في الموكب مثل قطار غيَّرَ قاطرته. استوى واقفا ليعبر إلى ضفة الصنوبرة، وشعر بحضورٍ وعيونٍ تراقبه. التفت ليرى رجلا كهلا حليقا أنيقا واقفا على الرصيف ينظر إليه تارة وإلى اليرقات أخرى. من أين وكيف حضر هناك؟ قصد عبد الحي الرصيف فخاطبه الرجل ببرود:

- هل يجدي ذلك شيئا؟ عجلاتٌ أخرى ستمر وتدوس الصف.. لا مُحاباة هناك.. البقاء للأقوى.

تبسم عبد الحي وكاد لا يجيب الرجل ويمضي إلى حاله مكتفيا بابتسامة. لم يشعر أن تحولت الابتسامة على شفتيه كلمات:

- لا بأس سيدي.. استسلمتُ لعاطفة عابرة.. مع أن لي مع تلك اليرقات ذكرى من أسوء الذكريات.

- كيف ذاك؟

(ليلة امتحان الباكلوريا كان عبد الحي جالسا في غابة صنوبر. أغلق دفاتره بعد إطلالة أخيرة عامة في دروسه، ومد بصره بين الأشجار يروم الاسترخاء ريثما يعود إلى البيت. لم يلبث أن شعر بنار تشتعل في عنقه. سلك يده بين قفاه وياقته فتلمس كوكبة من اليرقات حطت عليه من أعلى. انتفض كالمجنون وطفق ينفضها. سُدًى. كأن جيلا منها سقط عليه. حمل دفاتره وهرع إلى البيت ليكتشف احمرارا وتورما على قفاه وعنقه وصدره في ظرف وجيز..).

كان عبد الحي قد اندمج في الحكي كأن حريق الحساسية ألمَّ به الآن هنا. لكن الرجل لبث عاطلَا عن كل حس. تلقى الحكاية بنفس البرود أمامَ موت اليرقات تحت العجلات، لم يسأله كيف اجتاز امتحان الغد. عوض ذلك أخذ يحكي باستفاضة خبير وبرودته عن الأعراض التي تسببها اليرقات الموكبية، وأسبابها وعن صنف منها يسبب الموت إن صادف شخصا شديد الحساسية. ثم سكت عن المحاضرة المرصعة بأسماءٍ لاتينية لعوائلِ الدُّودِ وأنسابه.. لم ينتظر تعليقا فقال:

- ما اسمك؟ - اسمي عبد الحي.. وأنت؟ - أنا جليل.. دكتور جليل.. -تشرفت.. يبدو أنك تخصص بيولوجيا؟ – تقريبا. - دكتور عبد الجليل ماذا؟ كي أبحث عنك في غوغل..

أجاب الرجل بنبرة خشنة:

- دكتور جليل فقط.. كم يحب أهل هذه المدينة عبد.. عبد.. عبد..

- حاضر دكتور.. ولو أن عبد الجليل اسم جميل وفخم.. ومن يدري لعل الله يصرف عن هاته المدينة كثيرا من الشرور حين يطلع على أهلها فيجد هذا عبد الجليل هنا... وعبد الواحد هناك.. وهذا عبد الصمد... وذاك عبد الدايم..

- دعنا من ذلك.. نحن أحرار.. ما جدوى كل تلك الأسماء المقرونة بالعبودية؟

- العبودية للخالق هي عين الحرية من الخلق.. سيدي..

تمعر وجه الدكتور. لو كان الجيلاني مكان عبد الحي لقال له:" أنت خلقٌ في خلقٍ بلا خالق.." نطق الدكتور متذمرا من قوم غائبين:

- انظر كيف مسخوا الأنثى؟ كنا ندرس في الستينات والسبعينات جنبا إلى جنب مع طالبات أنيقات جميلات بتنورات زاهية قصيرة.. انظر الآن.. كل هذا الحجاب المحيط..

- الستر جميل سيدي.. يقولون لو أن شخصا خيَّرَك بين حلوى ملفوفة وأخرى عارية لاخترت الملفوفة.

- يبدو أنك منهم.

- ممَّن؟

- من المحافظين لا من الحداثيين.

- لا هذا ولا ذاك.. هذه فقط هستيريا التصنيف.. أنا عبد الحي وكفى.. ثم المحافظة توحي بالمواد الحافظة والحداثة توحي بحداثة السن والطيش.. ههههه

***

قطعَ نداءٌ أنثوي ضحكةً كان عبد الحي يريد أن يغلق بها القوس. التفت بالتفات الرجل ليرى فتاةً على عتبة باب فيلا على مقربة تنادي: "بابا، بابا.." الرجل لم يكن عابرا مثله. الرجل جارُ الطريق وجار اليرقات وجار الصنوبرة الواقفة مثل شمعدن عملاق غير مضيء. تقدمت نحوَهما. كانت على هوى أبيها. ممشوقة القوام، عارية السيقان والكاهل والصدر، عنقها مثل ناب فيل عاجي ناصع مقتطع من قاعدته العريضة وقد وُضع عليه وجه أبيض معتدلُ القسمات في غير حُسن. لم تتجاوز الفتاة ظل الشجرة بخلا ببياض بَشرتها أن تعبثَ به الشمس. أشاح عنها عبد الحي يرقب مَبلغَ اليرقات، ثم التفت على وقع صرخة هلع صدرت عنها. لفافةُ يرقات موكبية سقطت اللحظة من أقرب غصن على عنقها الناعم وتدحرجت في ثنايا صدرها الفخم. قفزت، نفضت، صفعت نفسها مرارا لتبعد ذاك المطر الحي الحارق. هرعت إلى باب الفيلا وأبوها من خلفها لا يدري ما يفعل أو يقول. وانغلق الباب..

ألقى عبد الحي نظرة أخيرة على موكب اليرقات، ثم مضى في طريقه. مسكينة. تنغَّصَ يومُها الربيعي الجميل ذاك. لا بد أن بشرتَها البضة الناعمة قد صارت في لون المدينة. ربما يود أبوها لو كانت ترتدي خمارا ولو للحظة، ولو لبرهة تقيها قسوة الدرس البيولوجي.

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم