الأربعاء - 17 نيسان 2024

إعلان

البطلُ الصغير

المصدر: "النهار"
باسم عون
البطلُ الصغير
البطلُ الصغير
A+ A-

كان نهار الأستاذ كمال نهارًا طويلًا شاقًّا. كيف لا، والامتحانات الرسميّة قد انتهت اليوم بسلام! فمنذ الصباح الباكر والمعلِّمون في جهوزيّة تامّة للمعركة الحاسمة.

الامتحانات الرسميّة! وما أدراك ما الامتحانات الرسميّة؟ فإذا كان للحصاد عند الفلّاح موسمٌ، فإنَّ للمعلِّم في زرعه مواسمَ، وبيادرُه موصولةُ الحركة، دائمةُ العمل، حيث للمذراة ألفُ جولةٍ وجولة.

فمن الفصل الدراسيّ الأوّل إلى أزمات نصف السنة الدراسيّة، إلى ختام المعركة الفاصلة حيث لا بدَّ للغبار أن ينجليَ عن الثمار المرتجاة. وهناك يكون ابتهاجٌ ويكون انكسارٌ، لكأنَّك أمام لوحةٍ مسبقةٍ عمّا سيكون عليه يوم الدينونة العظيم. وطوبى لمن ينجو في تلك الساعة من حُرقة البكاء وصريف الأسنان.

في طريق العودة إلى المنزل راح الأستاذ يمحو من رأسه كلَّ ما يمتُّ إلى العلم والتعليم بصلة، وأخذ يعلِّل النفس بموسم العطلة المقبل. لقد آن له أن يرتاحَ من مرأى الدفاتر والأقلام فيُيَمِّمَ شطر الوادي، على كتفه بندقيّةُ صيدٍ، وأمامَه يختال في زهوٍ كلبه السلوقي "نمرود".

ودخل المنزل... فهرول ابن السبع سنوات لملاقاته، ولكنّه ما لبثَ أن قفَلَ عائدًا إلى ألعابه عندما رأى يديّ الوالد فارغتين...

وبينما راحت الزوجة تحضِّر لزوجها مائدة الطعام، دخل الأستاذ إلى الحمّام، فغسل وجهه ويديه نافضًا عنهما ما ترسّب من بقايا طبشورٍ وحبرٍ ٍ وكلمات...

- "يوسف أين أنت يا بنيّ ؟" نادى الأب صغيره.

- ...

- "يوسف ناولني الخفَّين من غرفتي". 

-... ولكنَّ يوسفَ الصغير كان منهمكًا في غرفته يعالج دميةً شارفت على الاحتضار.

عيلَ صبر الوالد، وراح يتأفَّفُ ويغمغمُ كاظمًا لعناتٍ طالما وصَّفَ بها أبناء هذا الجيل.

وأقبلتِ الأم آتية بما لم يأتِ به الصغير، شأن الامّهات جميعًا في محاولتهنّ الحؤول دون المواجهة بين الأب وأبنائه...

ولكنّ الأب اعتذر من زوجته التي أرعبها طلبه ًامنها إعادة الخفَّين إلى الغرفة والعودة بالصغير... ولم يهدأ روعها إلّا عندما أخبرها أنَّه تذكَّر حكاية جميلة يريد أن يقصّها على ابنه، فيعوِّض عليه نقصًا في التواصل فرضته ظروف العمل في آواخر العام الدراسيّ...

يا لَسحر الحكايات، تنقلنا صغارًا وكبارًا إلى عوالم غامضة، يتربَّع على عرشها الخيال المجنَّح، فيرتقي بالسامعين فوق كلِّ ما هو محسوس ومضجر ومملّ.

وحول المائدة، بينما الجميع في سكون عميق، منتظرين على عتبة قدس أقداس الحكاية، راح الأستاذ كمال يَحبُكُ بمنتهى البراعة الأدبيّة أقصوصته المشوِّقة...

- عندما أبصرتُ النور في ذلك البيت الحجريّ المتواضع ذي السقف الترابيّ، كان الشتاء قد لملم عواصفه ومضى... وراحت المخلوقات تفيق من سباتها شيئًا فشيئًا، وكلُّ ما في الطبيعة يسعى إلى اكتماله... ولمّا كنت مخلوقًا كاملًا - على ما بدا للداية "صوفِيّا" في ذلك الوقت - استوحى لي أبي اسم "كمال"، هذا الاسم الذي أحمله منذ أربعة عقود ونيّف...

عندما بلغت الخامسة من عمري كنت قد ألِفت العيش في كنف بيتنا القديم، على كتف وادٍ يعجّ بما لا حصر له من الحَيَوات البرِّيّة. وكان بيتنا بموقعه ذاك كأنَّه كشّاف على حدود القرية، يراقب ما يمتدُّ تحته من تحرُّكات مريبة في المملكة الحيوانيَّة.

وعليه فقد اعتدتُ، منذ ذلك الوقت، على سماع أصوات قطعان ابن آوى تتردّد على تخوم الوادي في طقوس غريبة لا تنتهي. ناهيك عن تحرُّكاتٍ ملتبسة لذئب هنا أو لضبع هناك، جاء يقوم بما يلزم من أعمال النظافة وسحب الجِيَف الملقاة على حافَّة الوعر. كيف لا والضبع كان بمثابة "سوكلين"* ذلك الزمان! مع فارق أنَّه يعمل بالمجّان ولوجه الله، ليس إلّا.

وإن أنسَ لا أنسَ تلك الأمسيات الرائعة المهيبة التي كنّا نُمضيها على "السطيحة"، يتجاذبها ضوءان اثنان: القمر فوق الصنوبرة ، ومصباحٌ كهربائيّ شاحب اللون ذو قبَّعةٍ معدنيّةٍ،كان والدي قد علَّقه فوق باب المنزل ليُزيل ما أمكن من وحشة الليل في هذا الركن القصيّ من القرية...

كان حينها ابن الخمس سنوات يتَّخذ مجلسه ملتصقًا بأمِّه، يلوذ بها عند سماع أيِّ صوتٍ أو خربشةٍ في جدار. ولطالما أجفله صوتٌ غريبٌ رتيبٌ يأتي من صدر صنوبرة الدار الكبيرة. ومن ثمّ لم يعد نعيب تلك البومة ليخيفه، بعدما أصبحت من صُلب سُمّار البيت الدائمين...

أمّا الحشرات الزاحفة والحيَّات المفزعة فكانت جدتي تتعهّدها بالماء المقدس، ذاك المبيد الفعّال من تركيب أبونا "مخايل". وفي حال كان المحترم مشتَّت الذهن أثناء التبريك، ممّا قد يؤثِّر سلبًا في صلاحية المبيد المذكور، كانت الجدَّة تلجأ إلى الخطّة "ب"، وهي تقتضي الاستعانة ببراثن قطٍّ أسودَ كبير، كانت قد حصلت عليه من سوق النبطية الشهير إثر مساومةٍ مُضْنية. وقد جلبته خصيصًا لمثل هذه الظروف العصيبة...

وهنا توقَّف الأستاذ كمال عن السرد ليلتقطَ أنفاسه، وقد فاضت عيناه بأشجانٍ وذكريات كأنّما استفاقت للتوّ من غياهب الماضي.

وتابع قصّته :

- حقًًّا كانت الأيّام صعبة... ولكن بعد مرور كلّ تلك السنوات أكاد أقول إنَّ ما أقصّه الآن يشكِّل الصفحة الأنصع في ما مضى من حياتي.

المهمّ... كان من عادة والدي أن يغسلَ تعب نهاره بدمعةٍ من عصير الكرمة، فتجتمع العائلة عند المساء حول مائدة متواضعة تحتلُّ وسطها كأس عرقٍ بلديٍّ، تندى حُبَيْباتٍ بلّوريةً، وتتلألأ بياضًا كما حَرَمون في الأفق البعيد...

ولَئِن قيلَ قديما: "مصائب قوم عند قوم فوائد"، فلقد صحّ فيَّ العكس. نعم، فقد انقلبت الآية... وإليكم الخبر...

لقد دخلَت التكنولوجيا بيت الجيران من أوسع أبوابه. فعلى مقربة من بيتنا، على بعد مئتي مترٍ تقريبًا، يقبع بيتُ جارٍ لنا في كنفِ سنديانة عظيمة وارفة الظلال، كان لا بدَّ لنا من المرور بها قبل الوصول إلى دارنا.

أمّا تلك التكنولوجيا فقد تجلّت في ثلّاجة جديدة لحفظ الطعام، وقد سار خبرها في القرية سريان النار في الهشيم... أما "النمليّة"** – برّاد تلك الأيام – فقد أُحيلت على التقاعد غير مأسوف على شبابها...

ولمّا كانت مقولة "الجار للجار" ما زالت سارية المفعول في تلك الأيام، وذلك قبل أن يُفسد التنافس الحضاريّ للودِّ قضيّة، وبحكم دالّتِه على جيرانه، خطر لوالدي أن يستعيضَ عن مياه جرّة الجدّة ببضع مكعَّبات من الثلج، ممّا يجعل كأس العرَق أطيب مذاقًا.....

وفي إحدى الأماسيّ، بعدما مُدّت الطاولة، شاء أبي أن يضربَ عصفورين بحجر واحد، فيحظى بمكعَّبات ثلجيَّة منعشة ويختبر شجاعة الصبيّ...

أمّا أنا، فكنت قد أخذت مجلسي قرب المائدة يُغريني في ذلك صحفة يتيمة من النقل، وسلّة مُغرية من ثمار الفول الأخضر النديّ تتوسط المائدة فتعلّل النفس بشهيّات التجارب.

كانت الساعة قد قاربت السابعة مساءً والليل قد أرخى سدوله، وبرز القمر بدرًا من خلف جبل الريحان، يراود الحقول والقرى المنتشرة هنا وهناك.

- كمال، يا بطل... أريدك في مَهمّة...

- ماذا يا أبي؟..

- أتخاف شيئًا؟

- كلا يا أبي، ومِمَّ أخاف؟!

- بما أنَّك قد أصبحت رجلًا، أريد أن أرسلك عند الجيران، فتحضرَ لي في قصعةٍ بعض مكعّبات من الثلج.

- ...

وهنا تدخّلت الوالدة مستنكرة المهمَّة الحمقاء، عارضة المخاطر الجمّة التي قد تعترض الصغير. وقبل أن تسترسلَ في الشرح البديهي جاء كلام الوالد جازمًا، مانعًا، معلَّلًا بما ينبغي أن ينشأ عليه الذكور من الشجاعة والإقدام...

ومنعًا للأخذ والردّ أخذ وعاءً صغيرًا وناولني إياه قائلًا:

- إن كنتَ خائفًا لا بأس أذهب أنا.

وبانت في عينيه ومضات تحدٍّ ممزوج بالسخرية، ما جعلني آخذ الوعاء منه وأنطلق في مَهمَّتي.

...وانطلقَ رجلُ الخمس سنوات في خطىً حثيثةٍ مباشرةً نحو الهدف...

كان عليَّ اجتياز مسافة خمسين مترًا قبل أن أختفي خلف المنعطف المؤدّي إلى بيت الجيران، ولم يكن ذلك بالصعب، طالما كنت لا أزال مرئيًّا من الأهل. ناهيك عمّا كان يُدْرِكني من هتافات التشجيع من مثل: "يا بطل"، و "برافو"، و"خايف شي"؟ إلخ...

وفي أقلّ من طرفة عين كنت قد بلغت ذلك المنعطف المشؤوم، وهنا غابت أصوات التشجيع لتحلَّ محلَّها أصوات طَرَقات قلبي...

تبًًّا لهذا المنعطف الموحش الذي جمع على محطَّته كلَّ ما في عالم الرهبة من أسباب التوجُّس والريبة. حتى ليكادُ يَصلح لتصوير مشاهدَ من أفلام "ألفرِد هيتشكوك" السعيد الذكر.

فإذا انعطفتَ يمينًا، لا بدَّ لكَ قبل الوصول إلى منزل الجيران من السير عشرات الأمتار صعودًا في ظلمة دامسة حالت السنديانة الدهريّة دون ضياء قمرها، ما قد يعرِّض السالكَ لنهش الأفاعي إذا ما تزامن عبور العدويَّن الأبديَّين.

ما لي وللشرح؟!.. ها قد بلغتُ المنعطف، ورحت أحثّ الخطى صعودًا وكأنَّني مخلوق أثيريّ لا أطراف له ولا وزن، لكأنَّ في داخلي مولِّداتٍ خفيَّةً تطير بي في خفَّةٍ ورشاقةٍ فلا أشعر بوقع خطاي على حصى الطريق...

ولكنّني كنت كَمَن يَفِرُّ إلى الأمام خوفًا ممّا قد يكون وراءه. فعند المنعطف المذكور نفسه ولكن لجهة اليسار، ينحدر الدرب نزولًا إلى جوف الوادي، في طريق لذوات الحافر، كانت في غابر الأيّام مسلكًا للمكارين والحطّابين ومَن ضاقت بهم سبل العيش من طريدي العدالة وشُذّاذ الآفاق... وهناك لطالما لفظ الوادي من الحيوانات المفترسة، ما أصاب أبناء القرية بالهلع، ورفدَ المخيّلات الخصبة بمادَّةٍ دسمة لحكايات الشتاء الطويلة.

نعم كنت أصعِّد هاربًا من شدق الوادي الرهيب، يلسعُني من الخلف نسيمٌ باردٌ، خلتُه تأوُّه ما يعجُّ به الوادي منَ المخلوقات. ولكنّني في كلِّ ذلك كنت أحاذر النظر إلى الخلف، عالمًا بأنَّ مصيرَ زوجة "لوط" يبقى أرحم من مصيري في ما لو فعلت...

- ماذا فعلَت زوجة لوط يا أبي؟!

قاطعه يوسف.

- هذه قصّة كانت قد أخبرتنا بها الجدَّة قبل قيامي بهذه المهمَّة ببضعة أيّام، ممّا زادني رُعبًا... فلقد تحوَّلت زوجة "لوط" إلى تمثال من الملح...

وهنا فتح يوسف فاه... وأكمل والدُه القصَّة...

- وفجأةَ لاحَ ضوء مصباح شحيح، حسبتُه – على قربه – ضوءَ منارة تائهةٍ على أطراف بحر هائج...

وما كدت أستعيد بعضًا من روعي، حتّى فرّ من أمامي ما بدا أنّه قطٌّ أُخِذَ على حين غفلة. فعبر الدرب ملقيًا بنفسه في غياهب أطلال بيت قديم أبوابه مخلَّعة، مفتوحة، كأشداق الجحيم، وكان قد زعمَ أحدهم أنَّه قد رأى في إحدى ليالي كانون، في تلك الخربة التي عايَشَت في ما مضى أهوال المجاعة الكبرى، أشباحًا، وسمع عويلًا يشكو الجوع....

...وأخيرًا وصلتُ بشقِّ النفس إلى الهدف المنشود. وكم كانت المفاجأة كبيرة لدى رؤية أصحاب الدار طفلًا صغيرًا يَلِجُ بيتهم لاهثًا، في مثل تلك الساعة من الليل!

وبعدما زُوِّدتُ بما جئت من أجله، إضافة الى حفنة من زبيبٍ وجوز، عدت أدراجي ترافقني سيِّدة الدار في طريق العودة. ولكن حالما تجاوزنا مسكن الأشباح ذاك، ألححتُ عليها بالرجوع كي لا يخيبَ ظنُّ الوالد بصغيره... فرجِعَت.

...ماذا أفعل الآن وقد أصبح فم الوادي أمامي مباشرةً، وكل غصنٍ هنا يشي بما خلفه من وحوشِ أساطيرَ دفينةٍ، استفاقت الليلة على وقع خطوات هذا الصغير المغامر؟!..

لم يبقَ لي إلّا أن أُطرِقَ الرأس مهرولًا، علّي أنجو من مصيري المحتوم...

... وهناك عند الناصية، كدت أصطدم بأمّي الواقفة على مقربة، تنتظر عودة "عوليس"** الصغير، وهي تغمغم بكلماتٍ غير مفهومة - صيغت على عجلٍ - في لوم رجلٍ ضنّ على طفله ببعضِ طفولة...

ورأيتُني بمنتهى الزهو والكبرياء، أناولُ والدي مكعَّباته الثلجيّة، وأستعيد مجلسي قرب سلّة الفول الأخضر الذي كان لا يزال بانتظاري.

واحتفى أبي بالبطل الصغير، مرتجلًاخطابًا ختمه بالعبارة التالية:

- " إِبنِك صار رِجّال يا مَرا ".

لكنَّ أمّي أشاحت بوجهها ولم تجِب...

وهنا أنهى الأستاذ قصَّته...

عندها استفاق يوسف الصغير من انخطافه متنفِّسًا الصعداء، ثمَّ هَروَل إلى الداخل...

أمّا الأستاذ كمال فانتهز فرصة غياب الصغير، ليكشفَ لزوجته أنَّ كل شيء في تلك المهمَّة كان قد سار على خير ما يرام، لو لم يظهر فجأةً ذلك الهِرّ اللّعين، فيسببُّ للبطل الصغير من الهلع ما جعله يبلِّلُ سروالَه. وهذا ما خفي على الأب واكتشفته الأم لاحقًا عندما احتضنته فور وصوله، فكظمت قهرها عليه.

حقّا، إن للحكايات سِحرًا، وثمارًا أيضًا، فها هو يوسف يعود من الغرفة، حاملًا خُفَّي أبيه، وعلى شفتيه ابتسامة ماكرة...

___________________________

* سوكلين: شركة لبنانية مولجة برفع النفايات ومعالجتها.

** نمليّة: خزانة لحفظ المأكولات من عبث الحشرات ولا سيما النمل، تغلِّفها شبكة من الألياف المعدنية بشكل مربّعات صغيرة.

*** عوليس: البطل الإغريقي الذي حارب في طروادة، وقد تاه في أثناء عودته الى وطنه ايثاكا، وخاض الأهوال الكثيرة قبل رجوعه بعد عشرين سنة.


الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم