الأربعاء - 24 نيسان 2024

إعلان

وبضعة دولارات!

جورج موسى
جورج موسى
A+ A-

إنها السابعة والنصف مساء. آخر أيام الصيف. أضواء بيروت تُلبس المدينة زياً مختلفاً، وخصوصاً في تلك اللحظات التي تسبق العتمة. وهو يهم إلى إقفال باب شرفة مكتبه، كان يطرح على نفسه سؤالاً يتكرر منذ ثلاثة أشهر: هل استبدل المنقوشة الليلة بسندويش أغلى؟ أم أكتفي بالزعتر، فأتمكن حينها من دفع أجرة الباص، عوض العودة مشياً إلى المنزل؟


* * *


وهو يستعيد المشهد الذي بقي يتكرر لسنة كاملة قبل 14 عاماً، تملكته مشاعر متناقضة. هو حزن على أيام صعبة مرت عليه، لكنه في الوقت نفسه حنين ممزوج بالفخر. كيف لا وقد استطاع بأقل من عقد ونصف أن يخطو، لا بل يقفز خطوات إلى الأمام، ويبدل قليلاً وضعه ووضع عائلته الاقتصادي؟
كان ذلك قبل عشرين عاماً. حكاية تشبه القصص التي تنطلق منها المسلسلات المكسيكية. مراهق يكبر مع شقيقه - الأكبر بسنة واحدة - في كنف عائلة ميسورة الحال. الوالد يواجه فجأة أزمة مالية. تنقلب حياة الأسرة. الأب يضطر إلى التواري عن الأنظار بعدما استحق موعد ديون كثيرة. الأم تحاول لملمة ما تبقى من حيطان منزل، ينهار شيئاً فشيئاً على رأسها ورأس ولديها. وشابان صغيران جداً في العمر وحتى في معرفة قساوة الحياة، يصحوان يومياً على قرع باب المنزل، وعلى أصوات رجال غاضبين لا يعرفونهم، يطالبون الأم - وبأبشع أساليب التخاطب - بمستحقاتهم المالية.


* * *


ذاق الثلاثة فقراً حقيقياً. مرت ليال طويلة، اشتهوا فيها كسرة الخبز. كانت الأم حكيمة. عرفت كيف تحوّل الحرمان صلابة، والجوع إصراراً. عملت وأجبرت ولديها على العمل باكراً. لم يترك أياً منهما مدرسته. لا بل أكملا تحصيلهما الجامعي. وفي أيام الصيف وأوقات الفراغ، كان الإبن البكر يعمل مع جارهم في "سوبر ماركت" الحارة، أما الأخ الأصغر، فاختار مسرح الأطفال... ورسم على وجوه أولاد كثر، ابتسامة حُرم منها لسنوات.
لكن أيام القهر لم تعش طويلاً. تخرّج الشقيق الأول مع إجازة بالرياضيات، فيما نال الأخ الأصغر شهادتين: الأولى بالفنون المسرحية، والثانية بالتربية البدنية. القدر ابتسم سريعاً لهما. دخلا معترك العمل، من بابه العريض هذه المرة. شيئاً فشيئاً، استعادت العائلة عافيتها. قسم كبير من الديون دفع، فيما تمكنوا من تسوية ملف الأب قضائياً، في انتظار عودته قريباً من الغربة القسرية.


* * *


حين يتذكر الأخ الأكبر ذلك اليوم الذي بكى فيه لأن الأم منعته من شراء موسوعة عُرضت على تلامذة الصف، يضحك على نفسه... ويتألم. يومها، لم يكن بحاجة الى الموسوعة. لم يكن يحب القراءة أساساً، ولم يكن يملك شغفاً بالمعلومات العامة. لكنه بكى لأنها كانت المرة الاولى التي يشتهي فيها شيئاً، وتقول له والدته لا! لم ينسَ الحادثة يوماً، ولم يستطع حتى اليوم كبح رغبته التي ظهرت حديثاً، والتي تدفعه كل مدة الى زيارة المكتبة واقتناء موسوعة، لا يفتحها حتى، بل تؤمن له سعادة موقتة غريبة، وهو يتفنّن بهدوء حين يضع اجزاءها على رفّ جديد.
هكذا هي الحياة. حتى ولو أعطتنا الدرس نفسه، كل منا يفصّل العبرة وفق قياسه وتطلعاته. الشقيقان ذاقا الحرمان نفسه. الصغير وجد لذة الحياة الحقيقية في الزهد والابتعاد قدر المستطاع عن كل ما يتعلق بالمال والماديات، فيما الأخ الأكبر لا يعترف بالسعادة، إلا إذا كانت مصحوبة بكمية لا بأس بها... من الدولارات!


[email protected]
Twitter: @moussa_georges

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم