الأربعاء - 24 نيسان 2024

إعلان

جيل ما بعد الحرب... مَحاور ناشطة ونار تحت الرماد

المصدر: "النهار"
شربل بكاسيني
شربل بكاسيني
جيل ما بعد الحرب... مَحاور ناشطة ونار تحت الرماد
جيل ما بعد الحرب... مَحاور ناشطة ونار تحت الرماد
A+ A-

حين تسأل ريما (#فيروز) في فيلم "بياع الخواتم" (1965) خالها المختار (نصري شمس الدين) عن السبب الذي يدفعه للاقتتال الخطير مع "راجح"، ينفي وجود الأخير أساساً، مشيراً إلى أنه هو من اخترع شخصية الندّ. "وليش اخترعته يا خالي؟ شغلت بال الناس وبالي!"، تسأل ريما. يتوقف خالها عن السير، ويجيبها: "الأهالي بدّن حكاية، أنا خلقتلّن الحكاية، تيقولوا إنّي بحميهن من مجهول عليهن جايي". ممّن تخاف الجماعات التي يتحرّك شبّانها طائفياً ومناطقياً بعد حوالى 30 سنة على انتهاء الحرب الأهلية؟ ما الذي يدفعهم للاقتتال؟ ممّن يخاف من لم يعش الحرب؟ أمِن "مجهول"؟ من أيّ أرضٍ خرج هذا المجهول؟

لا يمكن لأحد أن ينكر الألم الذي خلّفته الحرب، ما يجعل الانحياز إلى جماعة الانتماء الأولي بديهياً. لكن المشكلة الحقيقية تكمن في ميل القادة إلى شيطنة الآخر لضمان سيادتهم على جماعاتهم وطاعة أفرادها له، من منطلق: "نحن تماماً عكس ما هم عليه، فنحن نمثّل الخير، بطبيعة الحال، طالما هم يمثّلون الشر". في هذا الإطار، يقدّم مدير الأبحاث في معهد عصام فارس للسياسات العامة والشؤون الدولية في الجامعة الأميركية في بيروت الدكتور ناصر ياسين ثلاثة عوامل رئيسية حالت دون فضّ النزاعات المناطقية - المذهبية بشكلٍ تام. "فالحرب الأهلية انتهت"، برأيه، "لكنّ توتراً وحرباً باردة بقيا، في وقت كرّس العفو العام الذي تزامن والمراجعة النقدية للحرب مبدأ (عفا الله عمّا مضى)، دون إيجاد حلّ جذري للنزاعات". كذلك، يرى ياسين أن المشاكل الأمنية والاغتيالات المتعددة والتفجيرات المتكررة والحروب المصغّرة التي نشبت بين فينة وأخرى "لم تدع لبنان يخرج من إطار الحرب، بينما كثرت الجماعات المسلّحة".

في كتابه "الهوّيات القاتلة" (1998)، يطرح الكاتب اللبناني #أمين_معلوف جدليّة الـ"نحن" والـ"هُم"، التي قامت عليها الحرب الأهلية. يرى أن الهوية الفردية تصبح "قاتلة" عندما تتجاهل طابعها الشخصي فيفصل المجتمع بذلك "نحن" و"هم". وغالباً ما تشير "نحن" إلى الضحايا المهمّشين، فيما تشير الـ"هم" إلى الجناة. ويقترح معلوف في هذا الإطار "ترويض الفهد" -ويقصد هنا فهم حميمية الهوية وفصلها عن الهوية الجماعية- بوصفها سبيلاً لإعادة إنتاج الفرد (الـ"نحن") بعيداً عن مسمّيات الإقصاء (هم، الآخر، أولئك). هذا الإقصاء يلمّح إليه غوستاف لوبون في كتاب "سيكولوجية الجماهير" (1895) في حديثه عن تمسّك الفرد بـ"عِرقِه" الذي يعني به حالة سقوط ذكائه، مهما بلغت حدّته، مانعةً إياه عن اتّخاذ قرارات منطقية. ويقوم تعريف لوبون للعِرق كذلك على فكرة أن مجموعة تعيش ضمن إطار محدّد خلال فترة طويلة، خضع أفرادها للقوانين نفسها، واعتنقوا العقائد نفسها.

في ذكرنا معلوف، نعود إلى مفهوم "شيطنة الآخر" الذي ينتهجه القادة لتغذية عصبية الفرد لجماعة الانتماء الأولي ومن تنتمي إليها. يشدّد ياسين من هذا المنطلق على أن القائد "يستمدّ قوّته من خطاب التقسيم السائد لترهيب جماعاته من الآخر، وكي ينظر إليه أتباعه على أنه الحامي". نسأله عن السبب الذي أعاد المحاور إلى الواجهة اليوم. "واضح أن إعادة اللعبة الطائفية تأتي لتخويف غير الطائفيين المطالبين بدولة مدنية". يحول الخطاب الطائفي بنظر ياسين دون "انتهاج خطاب تعدّي العصبية المذهبية - المناطقية"، ما يعزز هوية الجماعة الطائفية - المناطقية.


التنشئة الاجتماعية وعصبيّة الجماهير

دخلت الحرب الأهلية الذاكرة الجماعية للبنانيين. احتلّتها. تتحكّم بهم اليوم على اختلاف انتماءاتهم وأعمارهم. الذاكرة خبيثة، "تنتقل عبر الأجيال"، على حد تعبير الدكتور ساري حنفي، أستاذ مشارك في علم الاجتماع في الجامعة الأميركية في بيروت ورئيس تحرير المجلة العربية لعلم الاجتماع "إضافات". يُرجع عصبية جيل ما بعد الحرب إلى التنشئة الاجتماعية التي تنتهجها الأسر والأحزاب. المشاعر الطائفية تحتاج لشرارة حتى تتّقد. يرى حنفي أن القضية ليست قضية شيعي أو سنّي أو مسيحي. "القصة أكبر من مجموعة شباب يهتفون (شيعة، شيعة)، على سبيل المثال، لا يتخطّى عددهم عدد أصابع اليد". برأيه، للعصبية المناطقية - المذهبية جذور ضاربة في طفولة الفرد ومكان سكنه. "فرصة تعارف شاب مسيحي من غزير وآخر شيعي من الشياح تبقى ضعيفة قبل انتقالهما إلى الجامعة".

في ظاهرة مثيرة للاهتمام، يلاحظ الباحثون أنه للمسّ بالرموز الدينية وقعٌ قوي على الفرد وأقوى على الجماعة. "العقائد والمشاعر الدينية تغلب الاعتبارات السياسية"، يقول حنفي، "وهذا ما يدفع الأفراد على خوض إشكالات طائفية". يمكننا هنا فهم لجوء طرف إلى شتم شخصيات دينية، وتبرير انفعال الطرف الآخر. يستبعد حنفي أن تلجأ الأحزاب إلى حضّ أعضائها على شتم المقامات الدينية. "الفعل يتخذ طابعاً فردياً".

جيل ما بعد الحرب متأثرٌ بتربية أهله وبانغلاق مجتمعه. الأمر يحتاج إلى إعادة نظر بالمفاهيم التي يرثها الفرد عن أهله. والحلّ يكمن في إسقاط كل خطاب مذهبي- إقصائي واعتماد لغة الحوار المدني الجامع، نابذ التقسيم.

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم