الجمعة - 19 نيسان 2024

إعلان

لبنان: أبحثُ عن صاحب ضمير

المصدر: النهار
سعد نسيب عطاالله
لبنان: أبحثُ عن صاحب ضمير
لبنان: أبحثُ عن صاحب ضمير
A+ A-

قررتُ في أحد أيام نهاية أسبوع حافل بتسديد الضرائب، أن أقوم بصيانة سيارتي العجوز. ذهبت إلى "الكهربجي"، ثم إلى محل تبديل زيت المحرك، وأخيراً إلى ابتياع حاجياتي من الخضار والفاكهة في طريق العودة إلى المنزل.

كنت أشكو من انقطاع متكرر للزمور في الأوقات الحرجة لاستعماله. طلبت من الكهربجي إيجاد حلّ دائم للعطل. ابتسم ووعدني بإنجاز ذلك سريعاً، لأنه يعرف أن الشريط الذي يوصل بين مفتاح الضغط والزمور لا يوفر الطاقة الكافية للزمور.

أنهى الأمر بدقائق قليلة، حيث أشرك الشريط مع بطارية السيارة، بمفتاح كهربائي وسطي، سماه "بوبين"، وعاد الزمور إلى حالته الممتازة.

سألته عن كلفة التصليح، فقال: أربعون ألف ليرة، مدعياً أن ارتفاع الدولار قد رفع ثمن الـ"بوبين" التي وضعتُ مثلها، في وقت سابق، بكلفة عشرة آلاف ليرة. سددت له المبلغ شاكراً، وغادرت بغضب صامت.

أعجب كيف أن وزارة الاقتصاد لا تتخذ أي تدبير تجاه تجار قطع غيار السيارات، والفنيين، والتقنيين، الذين يقومون بعمليات تصليح الآليات.

اقتصر استغلالي على مبلغ بسيط من جانب الكهربجي الطامح، لكن كم هي معدلات المبالغ التي يمتصّها الفنيّون عند قيامهم بتصليح أعطال أكثر كلفة؟ لا أعتقد أن وزارة الاقتصاد تأبه للناس المستغلَّة والمستهلَكة، مع فتح اللام.

انتقلت إلى محل غيار زيت المحرك. رحب بي صاحبه، كما عهدته، وأنجز عملية تغيير زيت المحرك فوراً، حيث أضاف ثلاثة كيلو من الزيت العادي، نوع ٢٠/٤٠، وطلب مني مبلغ سبعين ألف ليرة (٧٠ ألف)، مبدياً لي أنه يطلب مبلغاً تفضيلياً، بصفتي أحد زبائنه الدائمين.

استوضحته عن هذه الكلفة الباهظة، فأجاب أنه كان يتقاضى سابقاً عشرين دولاراً بدل غيار زيت سيارتي، الذي يساوي ثمانين ألف ليرة حالياً حسب سعر صرف السوق. كتمت غيظي، ودفعت له المبلغ الذي أراده، وغادرت هائماً على وجهي.

أتساءل أيضاً، لماذا لا تقوم وزارة الصناعة والنفط بمراقبة أسعار المشتقات النفطية التي يتحكم التجار والفنيون، في تحديد أسعارها عشوائياً، وتترك حبل الاستغلال فالتاً على غاربه؟ لماذا لا تعاقب الوزارة هؤلاء المستغلين، وتقوم بحماية ذوي الدخل المحدود؟!

اشتريت بعدئذ خضاراً وفاكهة، وما أدراك بالمراقبة الغائبة، بصورة مطلقة، من جانب وزارة الزراعة في ما يتعلق بأسعار السلع الغذائية الأساسية، من حبوب وزيوت وخضار وفاكهة، التي فاقت أسعارها أسعار العطور الفرنسية الباهظة!

لا يستطيع الفرد أن يوفر حاجياته الأساسية لديمومة صراعه مع البقاء، حتى لشخصه فقط، فكيف يقوم بذلك الكثيرون من أرباب العائلات في لبنان؟!

متى تصحو وزارات الاقتصاد والصناعة والنفط والزراعة، من غفوة أهل الكهف؟ هل تنتظر ثورة الجياع العدمية؟

هل تدرك هذه السلطةالحاكمة الساقطة الغارقة في فسادها المدقع، أن غضباً شعبياً عارماً ينتظرها في قصورها، وكل أمكنة تواجدها؟

لقد أصبح كل جائع مشروع مجرم. لا أستبعد أن يصطاد الناس بعضهم بعضاً في لحظات غضب، وتخلٍّ، وضياع!

لقد سقط الستار عن فشل الدولة، والنظام، والقانون، وظهر كيان الأدغال، والغابات البشرية المتوحشة، وبانت غرائز المخلوقات البشرية الكاسرة.

كيف يعقل، خاصة في الظروف الوبائية الحالية، أن تسمح الدولة بتصدير السلع الغذائية والصناعية المحلية إلى الخارج، الأمر الذي يؤدي إلى ندرتها وارتفاع جنوني لأسعارها في الداخل؟

يتأكد لي أن كل خطط، وتخطيطات، وخزعبلات السلطة الساقطة تصب في خانة توفير العملة الصعبة من أجل ديمومة نهبهم وفسادهم، دون السعي لتأمين رعاية غذائية لعامة الشعب.

طالما أن تلاعب سعر صرف الدولار له تأثيرات سلبية واسعة على جميع مكونات المنتوجات الزراعية والحيوانية، وعلى الإنتاج الصناعي السلعي والغذائي، لا أرى ضرورة لبقاء وزارات الإقتصاد والصناعة والزراعة، التي يمكن استبدالها بمؤسسات دولية على شاكلة مفوضيات سامية، تشكلها الدول الأجنبية، للإشراف على تأمين حاجات الشعب اللبناني الأساسية.

ما فائدة الكلام الفارغ عن السيادة والحرية والاستقلال، بينما العملة الوطنية ليست سوى قمامة في مكب الاقتصاد والصناعة والزراعة؟

إن الارتهان للدولار هو انتداب نقدي، أسوأ وأخطر بكثير من الانتداب السياسي الذي يرعى أمور الناس.

لا يجب أن يتحمل الفقراء والجياع والمعوزون أعباء تلاطم أمواج سعر صرف الدولار دون التدقيق في أسعار السلع الأساسية، لضمان ديمومتهم وكبح جماح المستغلين الجشعين المنتشرين في كل حي من أحياء وطن مخلوقات الأدغال المفترسة.

لا حلّ للوضع المعيشي الحالي المزري، سوى في محاكمات ميدانية، يكون المتهمون فيها أمام خيارين: إما الإقرار بمسروقاتهم واسترجاعها فوراً منهم، أو تحويلهم إلى عدالة المقصلة.

لبنان يحتاج إلى "روبسبيير" معاصر، صاحب ضمير!




الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم