الخميس - 25 نيسان 2024

إعلان

الثقافة النظريّة دون تطبيق جاهليةٌ أخرى

المصدر: النهار
إبرهيم صالح حسن
الثقافة النظريّة دون تطبيق جاهليةٌ أخرى
الثقافة النظريّة دون تطبيق جاهليةٌ أخرى
A+ A-

خاطب القرآن الكريم عصر ما قبل النبي الأكرم، صلى الله عليه وآله وسلم، بالجاهلية، على الرغم من أنه عصر يمتاز بالشعر والأدب والفصاحة وقوة اللغة، حتى إنّ معجزة القرآن كانت بمثابة الردّ على ما يمتلكونه من بلاغة ونحوٍ وسبك الألفاظ؛ هذا يدل على أن الجاهلية هنا هي ليست بمعنى عدم القراءة والكتابة وإنما تنصيب وثن للعبادة، والإيمان بغير دين التوحيد، كما في قوله تعالى (أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى)، أو فقدان الأخلاق والسلوك؛ كما كان لديهم الكثير من تلك الصور اللاخلاقية واللاإنسانية وأشهرها وأد البنات، بقوله تعالى و(إذا المؤودة سئلت بأي ذنب قتلت)، والتعدي على الحقوق، وازدراء الضعيف، والتبرج والسفور الملفت للنظر، ودليل على ذلك قوله تعالى (ولا تبرّجن تبرج الجاهلية الأولى)، لکن هذا ما قبل بزوغ نور الإسلام؛ أما الشيء المحير استمرار الجاهلية ولكن بصور مختلفة بعد الإسلام، مثل تنصيب الأصنام النفسية والتقاليد البالية، كما يقول أوغسنت كونت (إن الأموات يتحكّمون بالأحياء في غالب سلوكياتهم)، أو كما يقول ابن خلدون (إن اتّباع التقاليد لا يعني أن الأموات أحياء بل الأحياء أموات)، فإن الإسلام على الرغم من أنه لم يتمكّن من القضاء عليها، إنما شرّع منهاجاً للقضاء عليها، إذ شخّص لهم الداء وأعطاهم الدواء، ولكن لا فائدة من ذلك!

إن أحد تعاريف التاريخ هو نقل الأحداث والأقوال والأخبار الماضية، والقرآن يدلّنا على الكثير من القصص التي حدثت في أزمان خلت وانتهت للاتعاظ بها، مثل قصص الأنبياء أمثال لوط وصالح وموسى وإبرهيم، عليهم السلام، يستعرضهم لنا كأنهم أشرطة فيديو أو أحداث تسلسلية وما جرى فيها، لتقديمها لنا بصورة دقيقة لكي ننهل منها عبراً وفوائد للناس، إذ يتضح وبشكل كبير، إن ساءت أخلاقهم وأعمالهم فكانوا في جاهلية، حسب رأي القرآن الكريم، فهلكوا ولم ينجُ إلا الباقون الصالحون من آمنوا وحسنت سيرتهم.

إن الأداء العملي هو جزء لا يتجزأ من رسالة الأديان والأنبياء، ففي سورة لقمان هنالك الكثير من الصور الأخلاقية التي ترتقي بالبشر، مثلما كان لقمان يعظ ابنه فيقول له (واخفض من صوتك، واقصد في مشيك، ولا تمشِ في الأرض مرحاً). يجسّد القرآن الكريم هذه الآيات للدلاله على تقويم الإنسان واحترام الآخرين، إذ يقصد في تعبيره أن حريتك تنتهي حيث تبدأ حرية الآخرين، ويريد أن يقدّم الصورة الجمالية بتعبير الكاتب الجزائري مالك بن نبي، من خُلق حسن وقيم فاضلة، لا يريد بالإنسان أن ينحدر إلى مستوى الحيوان لما كرّمه الله تعالى من عقل وجعله خليفة في الأرض؛ ثم يقول إن هنالك شخصيات ماثلة أمامكم جسّدت الصورة الخلقية، عليكم باتخاذها سراطاً نيراً، كما في قوله (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة)، أو في آية أخرى (قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه).

وبتعبير الفيلسوف الألماني إيمانويل كانت، استدلّ عن الله بالعقل العملي، أي من خلال تقديم الخير والإصلاح؛ ويتضح من ذلك أن الثقافة النظرية وحدها لا تكفي إن لم تُرفد بأداء عملي وتطبيق سليم، في هذه الحالة تصبح ثقافة ميّتة جامدة لا ترتقي إلى مستوى القيم الإنسانية لبناء نظام متكافئ قادر على التضامن والتكافل الاجتماعي؛ كما رأينا في تفاصيل التاريخ أن مهمة الأنبياء والعظماء هي لتحقيق العدالة الاجتماعية والنهوض بالمستوى الإنساني اللائق ليمحي الفوارق الطبقية التي دعا إليها الإسلام وكافة الديانات، ويمزجها في طبقة واحدة، ومثال ذلك في قولة تعالى (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ). إذاً، المخاطب هنا الأفراد وليس الشعوب، ويجب أن يبقى هولاء الأفراد مستقلين، وكل مجموعة أفراد تبقى مستقلة في شخصيتها وتكوينها الاجتماعي وقوميتها، والحكمة منها هي معرفة الأفراد حسب أنسابهم إلى القبيلة أو الشعب، وهنا وُجدت الآية لحكمة في أصل الخليقة، وفي المحصلة النهائية، أنه مهما يكن فإنّ أكرمكم هو المتقي ومن أسلم وجهه لله.

إذاً، إننا اليوم بحاجة إلى الإسلام الصحيح لا إلى الغرب، كما يقول الداعية أحمد ديدات، إذ بقيت الأفعال والتصرفات التي كانت تسود ما قبل الإسلام إلى يومنا هذا وبأشكال مختفلة، خلقت لنا مآسي لا تعدّ ولا تحصى.


الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم