الأربعاء - 24 نيسان 2024

إعلان

10 أفلام أدهشتني في كانّ - "شجرة الحياة"لترنس ماليك (2)

المصدر: "النهار"
هوفيك حبشيان
10 أفلام أدهشتني في كانّ - "شجرة الحياة"لترنس ماليك (2)
10 أفلام أدهشتني في كانّ - "شجرة الحياة"لترنس ماليك (2)
A+ A-

في مناسبة الدورة الملغاة من مهرجان كانّ السينمائي (بسبب تفشّي وباء كورونا)، نجري "تغطية" تحيّة للمهرجان في عنوان "كانّ - دورة كورونا"، تتضمن حوارات ومقالات. أردناها فرصة للعودة في الزمن إلى الوراء، إلى بضع سنوات خلت، لنستعيد شيئاً ممّا نحب في هذا الحدث الكبير، من خلال الذين واكبوه على مدار سنوات. انها فرصة لنعود إلى كانّ، ولو عبر الذاكرة، لنكتب فيه ما لم نكتبه في الماضي، ما لم يسعفنا ضيق الوقت لكتابته. طوال ١٢ يوماً، أي حتى الـ ٢٣ من الجاري، سننشر سلسلة مقابلات مع صحافيين ونقّاد يروون تجربتهم في المهرجان. "دورة كورونا" هذه، إن صحّت تسميتها كذلك، هي مناسبة لنبش دفاتر كانّ، في انتظار طبعة ٢٠٢١. في الآتي، مقالة نقدية عن “شجرة الحياة” لترنس ماليك تُنشَر في اطار “عشرة أفلام أدهشتني في كانّ”.

"شجرة الحياة" لترنس ماليك عمل سيبقى محفوراً في ذاكرة الإنسانية. يوم عُرض في كانّ، عام ٢٠١١، حيث نال “السعفة” من لجنة ترأسها روبرت دنيرو، انقسمت الآراء في شأنه حتى في صحيفة واحدة. وهناك صحف كبيرة اضطرت إلى أن تتيح مجالاً لنشر الرأيين المتناقضين. مَن يعود قليلاً إلى تاريخ السينما، لا بد أن يفهم هذا الجدال. الأفلام ذات الطموح المتضخم التي حاولت اطاحة كلّ أنواع السرد التقليدي، كانت دائماً موضع سوء فهم، قبل أن تنتزع الاعتراف. هل هذا يعني أن ماليك سابق لأوانه؟ قد لا تكون المسألة بهذه البساطة، لأن صاحب "العالم الجديد" (٢٠٠٧)، يصنع سينما تستطيع أن تموضع ذاتها خارج الزمن. الفيلم الذي أنجزه ماليك جوهرة خالصة، يقول فيه المخرج فلسفته الوجودية المنقسمة بين نوع من داروينية متحذلقة ونيهيلية تأخذ من الروحانيات حجّة كافية لوجودنا على هذه الأرض، ولكن ليس من دون لجوء إلى خطاب ميتافيزيقي مبهم.

يبقى ماليك وفياً لأشياء خاصة به، مستعيناً بأسلوب سينمائي لا يقلَّد، سواء في التقطيع أو استخدام الموسيقى كلازمة شاعرية، دائماً مع الشعور بأن كلّ لقطة تعزّ على قلب المخرج الذي خلفها. انه مشروع العمر بالنسبة إلى فنّان أمضى ٣٠ عاماً في سعي متواصل لإنضاج الأفكار الوافدة إلى النص من رأسه، خصوصاً ان من غير المستبعد أن يكون العمل أوتوبيوغرافياً، ذلك انه يحمل في داخله النوستالجيا لخمسينات القرن العشرين. النتيجة ساعتان وعشرون دقيقة من ابهار سينمائي تمتزج فيه الأزمنة والأماكن المتباعدة، بقدر ابتعاد زمننا الراهن عن لحظة انبعاث الحياة من التراب، وهو الشيء الذي يجسّده، في مشهديات تلامس العبقرية، تأخذ الفيلم إلى مراتب أخرى من الاختزال.

هناك طريق النعمة وطريق الطبيعة، كما يقول الفيلم في مشهد الافتتاحية، والاثنان يجدان تجسيدهما الآدمي في فيلم ماليك، الأول في شخصية الأب (براد بيت) والثاني في شخصية الأم (جسيكا شاستاين)، اللذين سيكونان المدخل إلى اقتحام خصوصيات عائلة تفقد أحد أبنائها، لتروى الحكاية (دائماً بالتعليق الصوتي البديع الذي صار من خصوصيات ماليك)، من وجهة نظر أفرادها، قبل أن يطعّم بلقطات بزوغ الكواكب والانفجار الكبير الذي يتيح كلّ أشكال الحياة على الأرض وولادة أول الديناصورات، لكن هذه المرة من وجهة نظر سينمائي مهموم بألغاز الوجود والإيمان والله، ويعبّر عن المأزق الوجودي بالعودة المتواصلة والمتكررة إلى الطبيعة، ولا خلاص للإنسان الا اذا صار هو والطبيعة قالباً واحداً. في فيلم يستعين برموز من الكتاب المقدّس، الطبيعة هي شغل الله، لكن على الانسان أن يجد النعمة، مثلما يجدها ماليك في حقل دوّار الشمس الذي يختم به تحفته. ينشغل الفيلم بمقاربات عدة، فلسفية ودينية وصوفية وبسيكولوجية (علاقة الصبي بوالدته ووالده)، لكن ينتهي إلى نوع من مقاربة نقدية للمجتمع الاستهلاكي الذي يحوم حول الانسان، جاعلاً منه كائناً صامتاً وحائراً يبحث عن شيء من العاطفة وسط كتل من الزجاج والحديد الذي صُنع منه سجنه الفاخر.


أراد ماليك فيلماً "مستحيلاً" جامعاً للحياة وسرّ الخلق والحقيقة الواحدة التي تتجسّد في الموت. يستحضر العلم والفلسفة والإيمان إلى طاولة واحدة ساعياً إلى نقاش بين الثلاثة. في سيل الصور التي يضعنا أمامها، يبحث ماليك عن العاطفة في داخل العقل، قاطعاً مع مفهوم الشرح والاستدلال في السينما الأميركية الذي يفسد كلّ شيء، وذلك من خلال بنية سردية تكاد تثور على السائد من الانماط السردية. هذه صور تمتص من المُشاهد آخر ذرة احساس يمتلكها، واضعاً اياه أمام حيرة ما بعدها حيرة، على شاكلة الحياة وغموضها. يذهب نصّ ماليك في اتجاه ما هو متناه في الكبر، ليصل أيضاً، قليلاً قليلاً، إلى نقيضه، أي إلى ما هو متناه في الصغر، مستنداً إلى فكر سينمائي يولي الحسيّة والكونتراست ما تستحقانه من أهمية. بعض اللقطات متكررة نعم، لكن ادراجها في أماكن مختلفة من السياق البصري، يغيّر معناها ووظيفتها. يؤمن ماليك بالروابط بين الأشياء وينصاع لمنطق الاختزالات. فبدلاً من أن يأتينا بعمل محكم البناء كعادته، يتيح لفيلمه التحول قصيدة مفخخة بألف تنهيدة. تماماً كالشجرة، يكبر الفيلم في داخلنا وتمتد جذوره إلى ما بعد مشاهدتنا له بأيام...

ذكريات العائلة المتداخلة بين الراهن والماضي، هذا الصوت الداخلي الذي يعيد ايقاظ شياطين حادث أليم، يقابله ماليك بجماليات الكون والوجود. صحيح انه يستخدم الكثير، لكنه في المقابل يقول الكثير. خطابه السينمائي في منتهى البساطة، على رغم تعقيد الآلية التي يلجأ اليها: لا حدود لنظرة الفنان، وعليه أن يدمّرها اذا وجدت. وهذا ما يفعله ماليك لقطة بعد لقطة، قبل أن يصطدم باللاحدود التي خلقها لنفسه.

“شجرة الحياة” رحلة إلى صميم التجربة الإنسانية، حيث الموت والحياة لا يتعايشان دائماً بسلام. من أيوب الذي يستعين بجملة منه على سبيل التمهيد، إلى مدينة عصرية وناطحات سحاب يتسكّع بينها شون بن (اختصر ماليك دوره إلى حده الأدنى، علماً انه تجسيد لجاك، كبير أولاد العائلة الذي سيصبح مهندساً)، قبل أن يعبر إلى عالم الآخرة، مروراً بالمحيطات والأشجار وقطرات المياه على الأغصان التي تلتقطها (كما لو انها تداعب) كاميرا إيمانويل لوبيزكي، هناك عالم بكامله يريدنا أن نصدّق ان "على هذه الأرض ما يستحق الحياة".

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم