الجمعة - 19 نيسان 2024

إعلان

في حضنها

جورج موسى
جورج موسى
A+ A-

أمي، لطالما كنت أنانياً. الأولاد عادة - حتى في قمّة عطائهم وعطفهم تجاه أهلهم – يبقى لديهم هامش من الأنانية. نحبّكم لأننا نبقى دائماً بحاجة إليكم.
تخيّلي، حتى في عيدك - عشية عيد الأمهات - أجد نفسي غير مهتم بشكرك على تضحياتك، بقدر ما أبحث عن راحتي أنا. منذ مدة لم أضع رأسي في حضنك. "عيب، صرت زلمي"!
كلا، أنا اليوم ولد أكثر من أي وقت مضى. ولد لا يريد أن يدخل معك، وكعادتنا كل صباح أحد في نقاشات سياسية أو اجتماعية حادة وعقيمة. اليوم، جلّ ما أرغب به، أن أعود أكثر من ثلاثين عاماً إلى الوراء، لأشكو لك هموماً كثيرة...
أمي، ثمّة خوف يسيطر عليّ منذ مدة. خوف يؤرقني كثيراً. يشلّني عن التفكير. أنظر إلى عيون أطفال العائلة. تغمرني سعادة عارمة، وأنا أراهم يكبرون، يضحكون، يملأون الدنيا صراخاً.
تدوم الحالة لحظات، ثم يعود الخوف ليتملكني، وأكثر من قبل. ترى، ما هي أسبابه؟ أهو الوضع الآني؟ تلك المنعطفات المصيرية التي نعيش؟ أم انه ذاك الشعور المزمن بعدم الاستقرار، وقد استفحل فينا بعد سنوات من القلق؟
أمي، لو تمكنتُ يوماً من إعادة عقارب الساعة إلى الوراء، هل كنت لأخسر الأشخاص أنفسهم، وفي الظروف نفسها؟ لا شيء يؤلم أكثر من رؤية صور قديمة. وأنا أقلّبها، تجتاحني رغبة للنسيان. نسيان اللحظة الراهنة ونيرانها. نسيان حاضر باهت، للعودة والبقاء أسير ذكريات ملونة. يا الله، كيف تحوّل ذاك المراهق الاجتماعي - والزيادة عن اللزوم - عجوزاً ثلاثينياً، يصطفي الوحدة والعزلة أسلوب حياة. أهم الناس الذين تبدّلوا، أم أنا من ملّهم سريعاً، واكتشف أن متعة الحياة لا تعني بالضرورة كثرة الأشخاص حولك، ولا زحمة الأماكن.
أمي، أشياء كثرة ربيتنا عليها، إسمحي أن أقول لك، إنها لم تكن محقّة. ليس صحيحاً مثلاً أن كل البشر طيّبون، وأن الطريقة الفضلى في معاملة الناس هي الانطلاق من هذه القاعدة حتى يثبتوا العكس. يا عزيزتي، لشدة الضربات، لم أعد مقتنعاً بكلامك ولم أعد قادراً على تحمل المزيد من الاختبارات. بصراحة، سقف التوقعات تجاه الآخرين لم يعد عالياً أبداً. لم أعد أنتظر شيئاً من أحد. وأكثر، بتُ اعتمد قاعدة مختلفة: كل الناس ذئاب، حتى يثبتوا العكس!
أكثر كلمة سمعناها منك كانت "عيب". أتعلمين، لقد قتلتنا الكلمة ألف مرة في اليوم، لنكتشف بعدها أن مخالفة العادات ليس عيباً، إنما العكس تماماً. السكوت عنها عوض التمرّد عليها هو العيب الأكبر. على فكرة، ابنك بات وقحاً. أراكي تتعجبين الآن وأنت تسمعينني أقول إن الجنس أيضاً ليس عيباً. لو تصالح كثيرون من المحيطين بنا مع أجسادهم، لكانت خفّت عقدهم وخف معها "نقّهم" وسوداويتهم. وبعد، هل تعلمين ان القناعة أحياناً ليست كنزاً، وان حب الوطن لا يعني بالضرورة البقاء في أرضه.
يا أمي، لقد تمسّكنا بالقناعة وتعلقنا بأرض الوطن حتى "تلفنا"، كما تقول فيروز. نعم، لقد تغيرتُ كثيراً، لكنني ما زلتُ أعشق فيروز.
أمي... إنسي كل ما قلته سابقاً. إنسي ثرثراتي تلك. دعيني أجلس في حضنك بصمت. أقنعي أختي التي اصبحت أماً، أن تعود مثلي صغيرة. قولي لها أن تدخل غرفتي خلسة، أن تقنعني بالنزول معها - في عزّ الظهر - إلى الحديقة لنفتح حنفية المياه، ونملأ جدران البيت ماء وصراخاً وتأنيباً وضحكات...


[email protected]
Twitter: @moussa_georges

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم