الجمعة - 19 نيسان 2024

إعلان

أرفضُ العيش في عالم افتراضي. سأنتحر!

هوفيك حبشيان
أرفضُ العيش في عالم افتراضي. سأنتحر!
أرفضُ العيش في عالم افتراضي. سأنتحر!
A+ A-

بعد ٤٠ يوماً من العزلة، حسمتُ خياري: سأنتحر اذا ما اضطررتُ للعيش في عالم افتراضي بالكامل.

كما هاري هيللر في “ذئب البوادي”، سأمسكُ بالشفرة في يد، وآخذ الابتسامة في يد أخرى، وأتصرف بدمّي، لتكون المرة الأولى أتصرف فيها على راحتي بشيء يخصّني. عندما أغمض عينيّ، أسمع صوت هيللر يتحدّاني: إفعلْها.

الأيام الأربعون الماضية، كانت كافية لأفهم ما يأتي: لا يمكنني في أي شكل من الأشكال التطبيع مع مثل هذا العالم الذي انزلقنا اليه: عالم نتخاطب فيه ونحاجج فيه بعضنا بعضاً بالشاشات. نحبّ ونكره بعضنا بعضاً بالشاشات. نثور وننتفض ونغضب، ذلك كلّه عبر الشاشات. نموت عبر الشاشات. نبكي الأموات وندفنهم عبر الشاشات، ثم تدفننا الشاشات.

تعبت أصابعي من كثرة الضغط على الأحرف. تترجاني ان أكفّ. العروق داخلها تصرخ “كفى”! عيناي تريان غبشاً، ما عدتُ أفرّق بين الناس، كلهم ظلال تتحرك، أصواتهم متداخلة، كلامهم وأحاسيسهم وأفكارهم كتلة واحدة. لا فرق بين سعيد وحزين، بين عابس وضحوك، بين متفائل ومحبط. كلهم أسرى هذه الشاشات التي صارت الوسيلة الوحيدة للاطلالة على العالم. أجدني في فخ صغير داخل سجن كبير.

٤٠ يوماً ضاعت بين شاشة تلفزيون وشاشة كومبيوتر فشاشة هاتف. ذهاباً واياباً، لفّاً ودوراناً. ٤٠ يوماً كانت أشبه بتمرين على ما هو مقبل علينا. لم أفهم ما أريد، ولكن قطعاً فهمتُ ما لا أريده بعد الآن. اكتفيتُ. شكراً. أطلبُ من هذا الكابوس ان يفك عنّي بأسرع ما يمكن. آن الأوان ان يرحل او أن يتركني أرحل.

وجدتني أمام شاشات تصلني على مدار الساعة، بمَا لا أحتاج اليه. من غرب القارة إلى شرقها، آلاف المعلومات والأخبار والمستجدات، تغرقني يومياً في التعاسة والاكتئاب، تجعلني أموت همّاً وقلقاً وارتياباً، وأنا لا أفعل سوى الجلوس على كرسيّ. شاشات تصنع كائناً متوتراً، انفعالياً، دائم الهم والقلق، دائم الحاجة إلى التعبير عن رأي، ودائم الاحساس بأنه عاجز أمام هول ما يحدث من حوله. شاشات لا دور لها في التثقيف وبث المعرفة، بل في تحسيسي بالحتمية. بل في بث الاحساس المرضيّ بالتقصير والذنب.

يقولون هذا هو المستقبل الذي لا مفر منه. يؤكدون ان لا عودة إلى الوراء. حياتنا في السنوات والعقود المقبلة ستكون افتراضية على شكل هذه العزلة. عزلة مدروسة، متطورة، "هاي تك"، نحيا ونموت فيها من دون ان نشعر لا بالحياة ولا بالموت كما عرفناهما سابقاً وتغنّى بهما الشعراء والرسّامون والسينمائيون.

نقلة كبيرة تجري في هذا الاتجاه. الجميع يلملم أشياءه ويتجه إلى الساحات الافتراضية التي باتت تشهد منافسات. يبقى السؤال اللغز: هل الكورونا سبب أو نتيجة؟ وهل هذا النهج سيبقى ويتمدد؟ لا أحد يعرف. الأكيد ان كورونا ساهم في استعجال الأشياء. تخيلوا ان مهرجانات سينمائية عريقة نقلت نشاطها إلى مكان ما في الهواء. ما عادت هناك أفلام تسلّط ضوءها في عتمة الصالة، أو ناس يلتقون بعضهم بعضاً. لا تصفيق في نهاية العرض، لا نقاشات ولا زعل بين النقّاد، لا ركض للحاق بموعد، لا سلام ولا قُبَل… أقصد كلّ هذه الأشياء الصغيرة التي جعلت قلوبنا تدق وجبيننا يعرق ونفوسنا تلهث. لم يبقَ سوى ناس يجلسون خلف شاشاتهم داخل منازلهم، في عزلاتهم الكئيبة، البغيضة، القاتلة.

الفنّ احتفاء بالحياة. لا يهمني هذا النوع من المهرجانات الافتراضية، ولا هذا النوع من المشاهدة، ولا هذا النوع من العزلة الذي يروّج له النظام العالمي الجديد كذروة الحداثة البشرية. أفضّل الموت على ان تصبح حياتي كلها كبس أزرار بكبس أزرار، من شاشة إلى شاشة.

عالمٌ مستفزٌ كهذا، حيث كلّ شيء قريبٌ منك سنتيمترات، وبعيدٌ عنك كيلومترات، عالمٌ كهذا أتقيأه، يشعرني بأنني لستُ منه، يمدّني بشعور بأنه ليس في حاجة اليّ، ولستُ في حاجة اليه. كلانا يستطيع العيش في معزل عن الآخر.

إني من جيل انتقل إلى العالم الافتراضي تدريجاً. لم يسقط عليه من فوق. لم يولد وفي فمه هاتف محمول. من الأجيال الأخيرة التي تعرف الفرق بين الآن وقبل. وها ان جنّات التكنولوجيا الموعودة والحاجة إلى المعرفة قد حلّقت به وبأحلامه إلى مستويات غير مسبوقة من العزلة والوحدة والادمان والكآبة.

لعلني من آخر جيل عرف الحرارة البشرية على أصولها. يعنيه الجلوس مع أصدقاء في مقهى بعد الخروج من فيلم. يفضّل محاورة سينمائي وجهاً لوجه بدلاً من التواصل معه عبر “سكايب”. يرى في لمس الآخر، الطبطبة على ظهره، الصراخ في وجهه، التحديق في عينيه، ذروة التواصل الإنساني والتجربة الحياتية.

لم ينتظر العالم الافتراضي تفشّي فيروس كورونا ليقتحم بيوتنا. لكنني الآن فقط أدركتُ ما نعيشه وما نحن مقبلون عليه. كان آباؤنا يخافون من الموت بالقنابل. خوفنا ان نموت من الكآبة والضجر، وحيدين محوطين بملايين البشر، لا نعرفهم لكنهم مثلنا وحيدون خلف شاشاتهم.

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم