الخميس - 25 نيسان 2024

إعلان

"رأس العبد" وحقوق الانسان

المصدر: خاص -"النهار"
محمد أبي سمرا
A+ A-

في عقد الستينات اللبناني "السعيد" اتفق اللبنانيون على تسمية قطعة شوكولا محشوة بالكريما البيضاء، "رأس العبد". كانت تنتجها "معامل غندور" ويبلغ حجمها حجم قبضة اليد. آنذاك لم يعترض أحد على التسمية هذه، ولم ينتبه أحد قط لـ"عنصريتها" ومجافاتها "حقوق الانسان". فكلمة عنصرية وعبارة حقوق الإنسان وسواهما من مصنفات الحقوق المتصلة بهما، لم تكن رائجة على ألسنة اللبنانيين وفي الخطاب الاعلامي، الاجتماعي والسياسي. وكان الاطفال والفتيات والفتيان وتلامذة المدارس، يستمتعون بأكل "رأس العبد" المغلف بطبقة رقيقة من الشوكولا السوداء، ويستمتعون أيضا بلفظ هاتين الكلمتين، كعلامة على اندراج فئات واسعة منهم ومن أهلهم في اللهو والاستهلاك والتمدن، بعد مغادرتهم الأرياف الى المدن.


في الزمن والسياق إياهما راجت أيضا سلعة جديدة لتنظيف أواني المطبخ كان اسمها "سيف العبد". وهي كتل صغيرة متكوكبة من خيطان الفولاذ تستعملها سيدات البيوت في تنظيف أواني الالمنيوم. وكانت التسمية تلك تدليلاً إلى فاعلية السلعة وقوتها في التنظيف، لشبهها بالشعر الأجعد القوي المتشابك لـ"العبيد"، أي ذوي البشرة السوداء.
في تلك الحقبة اللبنانية "السعيدة"، كان نادراً استيراد "الخادمات" الأجنبيات للعمل في بيوت اللبنانيين. أندر منه كانت الجمعيات والمنظمات الرائجة اليوم والناشطة في مجالات مناهضة العنصرية والتمييز على أنواعه، وفي الدفاع عن حقوق الإنسان والمرأة والطفل والعاملات الأجنبيات، وسوى ذلك من ألوان الحقوق، بعدما صار لبنان أشبه بغابة وعرة للعمران العشوائي، وللاجتماع العشوائي المضطرب، المحتقن والممزق والمتنابذ، في ظل غياب الأنظمة والقوانين ومؤسسات الدولة وسلطاتها، وانهيار المجتمع.
اللافت والمفارق أنه عندما لم يكن اللبنانيون يتكلمون عن حقوق الإنسان والحقوق المدنية والتمييز الفئوي والعنصري، ولا يكلمهم أحد عن هذا كله، كانوا يعيشون في ما يشبه نظاماً من "الوئام الأهلي - العائلي"، تندر فيه حوادث القتل اليومي كما اليوم. كانوا سعداء بـ"رأس العبد" وبـ"سيف العبد"، من دون انتباه إلى أن هاتين التسميتين ومثيلاتهما تنطوي على تمييز وعنصرية، وكانوا سعداء بعدم انتباههم ذاك. أما حين انتبهوا اليوم، وانقرض "سيف العبد" وأطلقت "معامل غندور" حملة إعلانية تلفزيونية لتسويق سلعتها القديمة باسم جديد هو "طربوش"، فوجدوا بلادهم وأنفسهم غارقين في الفوضى والهباء والمعازل الأهلية الطائفية المتحاقدة حتى القتل. وإذا امتنع عليهم تبادل القتل في معازلهم، ذهبوا إلى غابة القتل السورية الغارقة في الحرائق والدماء.
الناس نيام، إذا ماتوا انتبهوا!

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم