الثلاثاء - 23 نيسان 2024

إعلان

كفّوا عن شعوذة "التعليم عن بعد"

المصدر: "النهار"
سعد نسيب عطاالله
كفّوا عن شعوذة "التعليم عن بعد"
كفّوا عن شعوذة "التعليم عن بعد"
A+ A-

لا أذكر أنني تعلمت في المرحلة الابتدائية شيئاً غير الحكايات التي كان يتلوها الأهل أمامي، مع الأمثال الشعبية ودلالاتها، وبث العزيمة في النفس، والقدرة على الوصول إلى الهدف بالجهد والإرادة الذاتيين، والاعتماد على النفس.

وما تعلمته في المرحلة الثانوية، إنما كان عبارة عن خميرة فكرية اكتسبتها من مطالعات في كتب القصص والروايات ودواوين الشعر العربي والإنكليزي، وتقييم الأساتذة للملخصّات التي كان علينا كتابتها بعد الانتهاء من قراءة كل كتاب، وإلقاء الشعر الذي بقيت منه في ذاكرتي بضعة أبيات خالدة ومؤثرة.

كان الكتاب هو الكائن الآخر الذي لا نفارقه، ويثابر على تثقيفنا.

قرأت في اللغة العربية لحافظ إبراهيم، وابراهيم المازني، وإحسان عبد القدوس، ومارون عبود، ورئيف خوري، والأخطل الصغير، وميخائيل نعيمه، وجبران خليل جبران، وخليل مطران، والياس أبو شبكة، وكثيرين سواهم. وفي الأدب العالمي المعرّب، لليوناني كازانتزاكي، والإيطالي ألبرتو مورافيا، والروسي لدوستويوفسكي، والألماني لنيتشه. وطالعت في اللغة الإنكليزية روايات وجدانية وقصصاً شيقة لروائيين وكتاب قصص كبار وأفذاذ، أمثال شكسبير، وت. س. إليوت، وولت ويتمان، وعديدين آخرين.

أما في مرحلة التعليم الجامعي العالي، وخلال التخصص في الأدب الإنكليزي، فكانت تعتمد معظم الأبحاث على التعمق فيما اطلعت عليه في المرحلة الثانوية، مع سبر رؤى كتابات الأدباء والشعراء، التي غلب عليها التفكير المنهجي والموضوعي الصرف.

كان يصيبني خلال ممارستي مهنة التعليم الجامعي، دوار ذهني كلما كنت أسأل طلابي وطالباتي عن مطالعاتهم في المرحلة الثانوية، والغريب أن قلة منهم ومنهن كانوا يعرفون أسماء أدباء وشعراء لبنانيين وعرب، كما أنهم لا يجيدون مهارة الكتابة، في كلتا اللغتين، العربية والانكليزية، اللتين كانتا من بديهيات، وأساسيات، ومتطلبات إختصاصهم في حقل دراسة الإعلام والتواصل.

أعجب عما كانوا يحصلون عليه من معرفة خلال الإثنتي عشرة سنة التي سبقت وصولهم إلى الجامعة، علماً انهم لم يتعرفوا إلى طريق المدرسة سيراً على الأقدام، كما كان الوضع خلال أيام دراستنا، بل توفر لهم النقل بحافلات، ذهاباً وإياباً، من باب المنزل حتى داخل حرم المدرسة.

لقد أصبح التعليم والتعلّم تجارة واستثماراً مالياً بعيدين عن المطالعة المفيدة، ويعتمدان على التلقين المطلق الذي تغلب عليه مصادر يقتبسونها صورياً من تطبيقات الإنترنت، بحجة مواكبة أساليب التعلم الحديث، ولكن تحت إشراف أساتذة لا علاقة لمعظمهم بمهارة دمج المعلومات الرقمية مع تلك الورقية.

لقد أصبح الهاتف "الذكي"، الذي يحتوي على كل المعارف الإنسانية، الرفيق المتفلت عن سيطرة البحث عن المعرفة العميقة، الغارقة في لجج من المغريات التافهة الضحلة التي تظهر خلال عمليات التصفح، وتستحوذ على انتباه ورغبات الطالب الغريزية والإلهائية، وتبعده بالتالي عن التحصيل الفكري الخلاق والعميق والنافع.

أتيت سريعاً على كل ما سبق ذكره، للقول أن طرح مفهوم "التعليم عن بعد" إنما هو كناية عن شعوذة تربوية، تهدف إلى ضمان سداد الأهل للأقساط المتبقية للمدارس، كما يحصل حالياً بين المودعين والمصارف.

المصارف استثمرت أموال المودعين لصالحها، دونهم، كما تستثمر المدارس، ظاهرة أو شعوذة "التعلم عن بعد" للحصول على كامل أموالها وأرباحها السنوية، دون تقديم المعرفة الحقيقية، والتحصيل المعرفي المطلوب من الطلاب.

يكفي وزارة التربية إصدار قرار، تختصر فيه مقررات اللغات الثلاث: العربية، والانكليزية، والفرنسية، بنشرها ثلاث لوائح، للغات الثلاث، تقرها وتعتمدها لجنة تربوية متخصصة، تتضمن أسماء كتب لأدباء وشعراء وروائيين، على الطلاب مطالعتها، وكتابة خلاصاتها، التي تكون بمثابة وسيلة تقييم تحصيلهم الكامل، لإتمام مقررات العام الدراسي الاستثنائي الحالي.

يكفي الطلاب هموم ومعاناة الحجر المنزلي التي ترهق نفوسهم، أن يضاف إليها متابعتهم الدروس على وسائل الإعلام المرئية عنوة، التي تضاعف إحباطهم وضياعهم، في جو من الأسر الماجئ الذي يكبت نشاطهم ويزيد من غيظهم.

باختصار مفيد، إن الكتاب هو الرفيق والطريق أمام الطلاب، لاكتساب المعرفة، وتخزينها في العقول، في هذه الظروف الوبائية الخطيرة، وسوف يتجدد نشاطهم في العام الدراسي القادم، بإذنه تعالى، بعد عبورهم أعاصير، وأمواج الشعور بالهلع والخوف، التي تتلاطم وتتحطم على صخور، وثغور حياتهم اليومية القاسية!




الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم