الخميس - 25 نيسان 2024

إعلان

في طرابلس... صرخات الجوع تعلو على كورونا: "ما تحجرونا طعمونا" (فيديو)

المصدر: "النهار"
جودي الأسمر
في طرابلس... صرخات الجوع تعلو على كورونا: "ما تحجرونا طعمونا" (فيديو)
في طرابلس... صرخات الجوع تعلو على كورونا: "ما تحجرونا طعمونا" (فيديو)
A+ A-

لا تعبئة عامّة ولا حجر منزلي بمستطاع فقراء طرابلس. يتبيّن أنّ الالتزام بهما ضرب من الاستحالة، أمام إلحاح تأمين خبزهم اليومي، هذا في حال توفّر. حكومة تسلك آليات تقليدية وبطيئة لاحتواء الجوع، فيما تظهر مبادرات بلديّة ومحليّة لتوزيع الحصص الغذائيّة، تبقى هزيلة أمام تخفيف وطأة الفقر الذي ينافس "كورونا" في توسّعه.

هلع الجوع لا المرض

الحجر المنزلي يعني حجراً على المداخيل. مصالح تعطّلت ودورة اقتصاديّة توقّفت لدى المياومين والعمّال، تبحث اليوم عن متنفس في أسواق التّبانة والرّفاعيّة الشّعبيّة حيث يتزاحم النّاس، منذ ساعات الصباح الأولى، لبيع وشراء أساسيّات الطّعام. في هذه الممرّات الضيقة والضائقة ذرعاً باحتراز المسافة الآمنة، فقراء "عاصمة لبنان الثانية" التي لم يخدمها لقبها بامتياز واحد، تورّطوا في خيارين لا ثالث لهما: الجوع أو كورونا. لا يسلم هؤلاء المواطنون من ألسنة شتّامة وشامتة على مواقع التّواصل الاجتماعي، تتنمّر على فقرهم وما يصفونه بـ"التخلّف" الّذي جعلهم يخرقون الحظر ويعودون إلى أسواقهم.

هذه "الانتحاريّة" الموصوفة لم تتبدّل لدى موظّفين وأبناء الطّبقة المتوسّطة الّتي تشهد وتشاهد تأكّلها غير المسبوق. ها هم أوّل الشّهر، يحتشدون أمام الصرّافات الآليّة (ATM) من دون أي إجراء وقائي، إلى أن انتشر اليوم عناصر من سرية طرابلس لمنعهم من التجمهر أمام الصرافات، وباعدوا بينهم. هنا، "الهلع" الذي لازم أدبيات الجائحة، يطغى عليه "هلع" الموت جوعاً، أو "هلع" احتجاز المعاشات الّذي لا يستبعده اللّبنانيّون بعدما احتجزت المصارف مدخراتهم.

"طموح" اللقمة

تصدح عبارة "صحتك بالبيت" من الراديو الّذي أضاءه للتو سائق الأجرة عادل خ.، ما لبث أن أطفأه مستاءً، سائلاً: "وأكلك، كمان بالبيت؟". فيما يقود سيّارته الّتي لا يؤنس وحشتها راكب أو خبر سار، يضيف: "لا أستطيع إطعام عائلتي. إبنتي مولودة حديثاً وأفعل المستحيل لأؤمّن لها الحليب والحفاضات. لن أتحدّث عن ابني وزوجتي ولا عن نفسي. الله كريم". يتصاعد انفعاله: "أليس من الأجدر أن يوزع أصحاب المليارات حصصاً غذائية، يضعونها أمام بيوتنا؟ أين هم الآن؟ لا نرى خيرهم سوى في رمضان وأيام الانتخابات".

ويخبرنا سائق يبلغ من العمر 63 عاماً، فضّل عدم ذكر اسمه، بأنّه استغنى عن دوره في كراج أبو سمرا وصار سائقًا دوّراً، ينقّل سيارته ببطء في شوارع طرابلس، ينقّل ناظريه على الأرصفة، أملاً براكب، "لم يعد هناك ركّاب يقصدون الكراج، لذلك قررت التجوال بسيارتي". وعن غلّته، يكشف أنّه استطاع تجميع 13,000 ليرة بعد نحو سبع ساعات لفّ ودوران، مستطرداً "لم يعد لدي طموح لتعليمهم (أولاده) ولا لإكسائهم. بالكاد نأكل".

طرابلس التي أقرّت الأمم المتّحدة منذ العام 2012، بأنّ 58% من سكّانها يعيشون عند خطّ الفقر أو تجاوزوه، وسجّلت موانئها النّسبة الأعلى من الهجرة غير المأمونة نحو الشّواطئ الأوروبيّة عام 2015، تختزن بؤساً متراكمًا يضرب في جذوره إلى ما قبل الجائحة بعقود، بسنين، وأيضاً بشهور.

وعن النكسات المتلاحقة، تتحدث دنيا ع. التي تقطن في حيّ الشوك، الّمصنّف من المناطق الأكثر حرمانًا. تعمل دنيا مياومة في صالون تجميل أغلق أبوابه، فأغلق معه باب الرزق الوحيد الّذي تعيل من خلاله أسرتها المؤلفة من ابنتين وزوج. ذلك أنّ زوجها فقد عمله منذ ثلاثة شهور، "كان زوجي مياوماً في Le Mall سنّ الفيل (الحبتور)، الّذي أقفل أبوابه منذ شهر كانون الثاني. ولم يجد حتى الآن عملأ بديلاً". هذه الأسرة المتعففة غير القادرة على الإيفاء بإيجار بيتها الزهيد البالغ 250,000 ل.ل. تقع أيضاً فريسة لجشع التجار وطمعهم. ففيما يلوح تخفيض الأسعار كتضحية عظيمة من التجار، لا يلتزم هؤلاء تثبيت التسعيرات السابقة كأضعف الايمان، إنّما يحوّلون سوق الأساسيّات الغذائيّة إلى سوق سوداء لم تشهدها طرابلس إطلاقاً. تقول دنيا: "بلغ سعر كيلو البصل 3000 ل.ل. صدمني الرقم. وحين طلبت من البائع إعطائي بصل بألف ليرة، حصلت على بصلتين، تدبّرت بهما غداءنا".

رياض يمق: تخصيص استمارات غذائية

بعد مرور شهر على الحجر، وأيام على التعبئة، خرق المواطنون منع التجول ليرفعوا صرخة إفلاسهم، في مسيرات راجلة جابت أحياء التبانة وجبل محسن، ومسيرة توقفت أمام بلدية طرابلس، وتظاهرة أمام منزل المفتي الشعار، ووقفات متفرقة في ساحة عبد الحميد كرامي، يردد خلالها الشبان شعارات "بدنا ناكل جوعانين"، و"ما تحجرونا طعمونا". كما عبّرت الاحتجاجات عن تقصير الحكومة في تأمين المواد الغذائية، وفرض الرقابة على الأسعار الّتي لا يضبط ارتفاعها حسيب ولا رقيب.

الآليات التقليدية لتنفيذ خطة الإغاثة ليست مجدية في تفاعلها مع الجوع. فخطة الحكومة القاضية بتخصيص 300 ألف حصة غذائية، تنتظر عرضها على اللجنة الوزارية لتُرصد عندئذ الاعتمادات اللازمة. وفيما الجوع ينتشر كالنار في الهشيم، تناقش اللجنة الوزارية لمكافحة كورونا "مسألة" تحديد الأسر المحتاجة وكيفية التنسيق مع المحافظين والبلديات، من خلال استمارات موحدة، لترسل إلى وزارة الداخلية ويعاد التدقيق بها، ثم إعادتها مجدداً إلى وزارة الشؤون الاجتماعية، إلى أن تُستدرج العروض والمناقصات، ليُكلَّف الفائز بتأمين الحصص وتوضيبها وتحويلها أخيراً إلى الجيش المكلف بالتوزيع!

وحتى الساعة، الاستمارات لم تستلمها البلديات، الأمر الذي أكده لـ"النهار" رئيس بلدية طرابلس، الدكتور رياض يمق، متحدثاً عن "إمكانية" وليس "تأكيد" وصول إعانات حكومية من طرابلس التي لم تتوضّح حصّتها بعد، "هذا ما يحدث لطرابلس في الأزمات. لا تحصل على الدعم الذي يرقى إلى حجم الحاجة. فالقنبلة الموقوتة الأكبر في طرابلس، إن فلتت ستحلّ كارثة عظيمة من المستحيل لملمتها".

ويكشف يمق بأنّ الديوان التابع لمجلس الوزراء صادق اليوم على اقتطاع بلدية طرابلس لثلاثة مليارات ليرة لبنانيّة من ميزانيتها الخاصة لتغيث قدر إمكاناتها العائلات التي تنوء بجوعها. يتابع: "هذا المبلغ سيساعد في تأمين حوالي 40 ألف حصة غذائية ومواد تنظيف، ستوزع خلال الايام القليلة المقبلة بقسائم تصرف في الدكاكين الصغيرة المنتشرة، دعماً منا لصغار التجار، فنكون ساهمنا بعض الشيء بتنشيط الدورة الاقتصادية". وعن إجراءات الوقاية المتبعة في هذه الخطوة، يقول: "قد نعمد بالمداورة إلى تسكير بعض المحلات وفتح محلات أخرى، مباعدين بينها في الأسواق، منعاً للتزاحم، إنما لا تزال الآلية قيد البحث لنتبع أقصى ما تمليه السلامة العامة"، مضيفاً بأنّ البلدية تقوم بتشبيك البيانات مع الجمعيات والمبادرات الاغاثية "حتى توزع القسائم الغذائية بعدالة ونعطي الأولوية للعائلات التي لم تصلها يد العون".

لذلك، فإنّ الحسابات الأكثر تفاؤلًا لا تتوقع وصول الإغاثات الحكومية لطرابلس قبل المنتصف من نيسان. خلال هذا الوقت، ينتظر فقراء المدينة فرجاً منبوذاً إلى أجل غير مسمى، فيما يعكز بعضهم على كراتين غذائية أمّنتها حملات شبابية ومطابخ توزع أكلاً بالمجان، الأمر الّذي يدعو للاعتقاد بأنّ الحكومة تعتمد على أدوات المجتمع الأهلي في طرابلس وليس العكس بمقتضاه الطبيعي.

بالمحصلة، كلّ ما يحدث في طرابلس ينذر بقنبلة اجتماعية وأيضاً صحّيّة، توشك على الانفجار. فهل في خروقاتها، تقول طرابلس لمن لا يصغي لصرختها: "قد أعذر من أنذر؟".

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم