السبت - 20 نيسان 2024

إعلان

عن الحقائب والمأساة

المصدر: "النهار"
علي ذرب
عن الحقائب والمأساة
عن الحقائب والمأساة
A+ A-

نحنُ لا نحصل على الحقائب وانما نحنُ نلدها، هكذا أعتقد وربما ثمّة كثيرون يعتقدون ذلك أيضاً لأن عملية شراء حقيبة خلفها تاريخ من التأمل والانتظار رغم بساطتها؛ يذهب أحدنا الى السوق ويحصل على حقيبة وينتهي الأمر عند هذا الحد، ولكن هذا غير معقول لأن رحلتنا معها أعمق من ذلك بكثير وعلاقة بعضنا ببعض لا تنبني لكي تنفصل، وهناك أسئلة عديدة وأهمها: لماذا يتوجب علينا دائماً الحصول على حقائب؟ والحقيبة على كل حال لا تصبح حقيقة إلا بعد عناء، فهي تظهر في الذهن كما تظهر الأفكار والتصورات وكما تظهر صور الغائبين لكنها في لحظة ما تظهر ولا تغادر وذلك عندما نستشعر الاغتراب ونفهمه على حقيقته حين تبدأ الأشياء في أماكننا بالتحول الى مشانق حين ذاك نتمسك بها كنوع من الأمل أو النجاة وأذهاننا تكون قد امتلكت من الرغبة في بقائها أكبر مما تمتلكه هي من رغبة في المغادرة فتستقر في أعماقنا وتتغذى على خطواتنا التي نقطعها في الخطر والمساحات الضيقة. إنها تنمو بداخلنا كما ينمو الجنين، فمن غير الطبيعي أن تاريخ الألم الكبير هذا تنهيه عملية الشراء البسيطة تلك.

مشكلة الحقائب أنها أصغر بكثير من فكرة العائلة وأصغر من فكرة الأصدقاء ولا شك في أنها لا يمكن أن تستوعب مكاناً نشأنا فيه أو أحببناه ولا يمكنها أيضاً أن تستوعب جميع الأشياء التي مكّنتنا من التمرن على الإنسانية كالكتب وما شابه ذلك. والحقائب لا تفهم أننا في حاجة إلى كل هذا، ولنفترض أن لها شكلاً آخر وحجماً آخر وطريقة أخرى لنقلها معنا وأنها يمكن أن تستوعب جزءاً من هذه الأشياء، حينذاك ما الشيء الذي سآخذه معي وما الشيء الذي سأتركه؟ هل سآخذ أمي معي وأترك بقية عائلتي أم سأختار شخصاً آخر منها؟ كيف يمكنني اختيار واحد من عائلتي التي أحبها وأشعر أنه مهم بالنسبة إلى كينونتي وحياتي، وكذلك الأصدقاء هل سأختارهم جميعهم أم لا أحد منهم أم أنني سأكتفي بواحد منهم؟ هذا التساؤل يمكنه الانسحاب على الأشياء جميعها، فحياتي مليئة بالتفاصيل التي هي عالمي الذي أتحرك فيه وأعرفه جيداً. وفي وقت إعداد الحقائب نحن نواجه الاختيار عينه الذي هو نوع آخر من الشر والتعذيب، وفي حقيقة الأمر نحن لا نختار نحن نلتقط ما نشعر أنه سينفعنا وما ترتفع قيمته لدينا في ذلك الزمن القليل الذي تصبح فيه الحقيبة جزءاً من ديكتاتورية خفية لكنها رحيمة بعض الشيء فهي لا تسمح بأن نأخذ معنا بعضاً من الاشياء الأصيلة ولكنها تسمح لنا بأخذ صور منها.

نحنُ نغادرُ أماكننا هرباً من الموت وأحياناً نغادرها للبدء من جديد في أرض جديدة والحقائب في كلتا الحالين تكون معنا؛ إنها مجبرة على ذلك لكنها في الحالة الأولى تكون دليلاً على معاناتنا وفي الحالة الثانية هي دليل على أننا نمتلكُ حياة سابقة وأن كل الذين يغادرون، وأنا واحد منهم، يأخذون معهم حقائب نوضّبها في وقت مسبق ونصحبها معنا. ولكن، هناك من يمضون سواء في حالات الخوف أو في الحالات العادية من دون حقائب مثل هؤلاء ربما يفكرون بالقطيعة، ربما يفكرون بالبدايات فقط، ربما هم متجددون من الداخل ولا يوجد شيء من ماضيهم في مستقبلهم ولا يريدون أن يحدث لهم ذلك ولو لمرة واحدة مثل هؤلاء يرحلون فقط. من ناحية أخرى أؤمن تماماً أن الانسان الوحيد على هذه الأرض الذي عَرف الشتات هو من اخترع لنا الحقائب وهو من رآنا بأعماقه وفسر لنا معنى الرحيل وهو من عمّق علاقتنا بأشيائنا، إنه أول الراحلين وأول الذين عرفوا حاجة الانسان العميقة وانه الوحيد الذي أراد أن يوقف النهر الذي يجري في رأسه فابتكر الحقيبة.

للحقائب مصير وحيد هو المأساة، لأنها محاطة بفضاء الإنسان. والإنسان اله لا يعرف كيف ينقذ أشياءه ولا يعرف كيف يوقف نزيفها، فهو على الدوام يتألم من أجلها فقط. ولأن إنسان اليوم أكثر سوداوية وأكثر عرضة للإحباط والكآبة فهو لم يعد كما كان في السابق ذا عوالم معمرة، فعوالمه اليوم هشة وبلا ذاكرة، لا يستطيع سوى أن يبني عوالم من الورق والحقائب وسط هذا لا يمكنها سوى أن تعمق إحساسه بالقلق والتوتر فهي في هذه الحالة تشبه حجراً هائلاً يتدحرج نحو عينيه يرعبه أكثر مما يطمئنه، وأماكن الحقائب اليوم في هواجس الانسان أكثر مما هي في عواطفه والانسان يدافع عن حقيبته في حالة واحدة عندما يشعر أنها عقله الباطن لهذا أكثرنا خوفاً على حقيبته هما الديكتاتور ورجل الدين.

في المطارات تتعرض الحقائب للفحص، وحقيبتي، مثلاً، كعراقي تتعرّض للطعن! هكذا نحن أبناء الحروب، المطارات هي جحيم تذهب اليها حقائبنا، نسير معها في الممرات مرتبكين ونبتسم كثيراً بوجوه رجال الأمن فقط لنقول إن حقائبنا خالية من السكاكين والمتفجرات والأشياء الممنوعة، ولأننا نخاف من فقدانها دائماً ما نضع عليها أسماءنا واشياء تدل على أنها لنا وعندما نكون بانتظارها لاستلامها قبل خروجنا من المطارات نكون أكثر المنتظرين حرصاً وقلقاً لأننا نخاف من فقدانها وعندما نفقدها لا نستطيع إرجاعها لأن لا أحد يهتم بأشياء المستضعفين ويكفي أن للحقيبة يداً أو أكثر من يد لنعرف أنها كالطفل بلا إرادة لكن الفارق الوحيد بينهما أنها لا تعرف البكاء.

كل يوم تزداد حاجتنا للحقائب لأننا نزداد خوفاً ولأننا مطاردون ولأن الحروب والصراعات تفاجئنا دائماً وسوف يستمر انهيار مدننا ومجتمعاتنا فقط لأن الحقائب موجودة ولأن بحسب ما يعتقد القتلة وهواة الدم أننا قادرون على المغادرة ولا يهم كيف نبدو في شاشات التلفزيون ونحن نسير وحقائبنا مبعثرة فوق رؤوسنا يكفي أننا سنثير الشفقة، كان يمكن أن يكون للحقائب موقف آخر غير أنها وُجِدت للرحيل.

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم