الثلاثاء - 16 نيسان 2024

إعلان

عندما التقيتُ كورونا وتحادثنا عن بعد مترين

المصدر: "النهار"
غسان صليبي
عندما التقيتُ كورونا وتحادثنا عن بعد مترين
عندما التقيتُ كورونا وتحادثنا عن بعد مترين
A+ A-

التقيت بكورونا على بعد مترين من منزلي، وكان ينتظر خلية بشرية لتحتضنه وتنقذه من الموت.

كنت خائفا، وهو كذلك.

هو خائف من ان ألقي على رأسه معقمات واقتله، وانا خائف من ان يتسلل الى داخلي، ويقتلني.

الخوف المتبادل، الذي يسمونه توازن رعب، كان فرصة لنا نحن الاثنين لنفتح حوارا صريحا عن بعد.

ولأن الخوف هو اللحظة المثالية للاعتراف بالجريمة، سألته:

- لماذا تقتلنا نحن البشر يا كورونا؟

- لانني اريد ان اعيش.

- اهي وسيلتك الوحيدة للعيش؟

- الا تعرف انني، كفيروس، لست كائنا حيا، بل تسمونني "كائنا على حافة الحياة"، اي اني احتاج لان اقضم خلية حية لأحيا واتكاثر.

- كم انت شرير يا كورونا، تقتلنا لتعيش؟

- كم انت خبيث ايها الانسان، ألست تفعل مثلي؟

- انا لا اقتل لأعيش.

- الا تقتل الحيوانات لتأكل لحمها، الا تقطع الشجرة وتستخدم خشبها للتدفئة؟

- ليس كل البشر يفعلون ذلك. ومن يفعل يستطيع ان يتوقف عن فعل ذلك ويستمر في العيش. نحن لا نقتل لنعيش.

- ممتاز، هذا هو الفرق الجوهري بيني وبينك. يمكنك ان تعيش بدون ان تقتل، لكن أنا لا. أنت تتقصد القتل أما أنا فلا. وهنا كل الفرق بيننا. كما اني في الواقع، لا اقتل في الكثير من الاحيان بل ازرع المرض الذي يشفى منه معظم الناس. وانتم تزرعون المرض اكثر مني من خلال سياساتكم الاقتصادية والبيئية التي تطال البشر والحيوانات والنبات. وربما كنت أنا نتيجة هذه السياسات.

- بعضهم يتهمك بأنك مكلّف من الله معاقبة البشر على خطاياهم ولابتعادهم عن وصاياه.

- انا لا افهم هؤلاء البشر. إنهم لا يتورعون عن إستخدام كل شيء لتبرير أعمالهم وخدمة مصالحهم. وانا ارفض قطعيا هذه التهمة لا بل استنكرها. كل ما اعرفه اني اقضم الخلايا الحية لأعيش. واذا كان لا بد من إدخال الله في ما يحصل، فعليكم ان تسألوه هو لماذا خلقني على هذه الشاكلة. يبدو انكم عندما تغسلون ايديكم، لا تفعلون ذلك خوفا من العدوى فقط، بل وكأنكم تغسلون ايديكم من مسؤوليتكم عن تفشي الفيروسات، وترمونها على الله. لقد خضعتم لغسل أدمغة لأجيال، ربما حان الوقت اليوم لأن تغسلوا قلوبكم.


- هل تتهمنا بأننا نشوّه صورة الله؟

- مخيلتكم الدينية شريرة. لا تتصورون بداية للحياة البشرية بدون الخطيئة الاصلية. تجعلون قايين يقتل أخاه هابيل، كمثل للعلاقة بين الاخوة. تؤكدون ان النبي إبراهيم، مؤسس الديانات التوحيدية، كان يريد ذبح إبنه إرضاء لله. هكذا تروّجون ان الله لا يعتاش الا على التضحية بالبشر، وأنه يحق للأب ان يمتلك حياة ابنه ويفعل بها ما يشاء. وهذا مثل آخر تعطونه لعلاقة الاب بإبنه. لكنكم تعودون وتعطفون على الله وعلى ابن إبراهيم، فتقولون ان الله طلب من إبراهيم عدم قتل ابنه والاستعاضة عن ذلك بذبح نعجة. اي أن إلهكم يصر على التضحية بكائن حي، حتى لو كان مسالما مثل النعجة. وتستخدمون هذا المثل، لتجعلوا افراحكم لا تكتمل، بدون اراقة دماء النعاج على الطرق. وعندما جاءكم يسوع ليقول لكم اريد رحمة لا ذبيحة، قتلتموه وإدّعيتم ان الله ارسله ليموت من أجلكم. اي انكم عدتم وجعلتم الله يفعل ما لم يسمح لإبراهيم بالقيام به، اي التضحية بإبنه.

- انك تتكلم وكأن البشر مجرمون لا يعيشون إلذا على القتل والشرّ.

- ألا تفتعلون الحروب لتنهبوا بعضكم بعضا، فيموت البعض من أجل ان يحيا البعض الآخر؟ الا يستغل بعضكم عمل بعضكم الآخر، فيعيش على حساب بؤس الآخرين؟ أليس البؤس موتا يوميا؟ الا يقوى الرجل ويعيش حياته على حساب صحة المرأة وحرمانها من العيش كما تريد؟ مجتمعكم قائم على موت قسم منكم من اجل ان يحيا القسم الآخر، وانتم تعلمون ان بإستطاعتكم أن تعيشوا جميعا متساوين بدون الحاجة لأن تقتلوا بعضكم بعضا. وتعاتبونني لأن الله الذي خلقكم كاملين، خلقني ناقصا، ولا يمكنني ان أكتمل الا اذا قضمت خلية حية!

- لكنك لا تكتفي بقضم خلية حية، ها انت تقطع اوصال العولمة وتدمر إقتصاديات البلدان وتعرض ملايين البشر للبطالة والفقر.

- انا لم أتقصد القيام بذلك، كما اني لم أكن على علم بما تقول. على كل حال، هذا يدل انكم اخترعتم كل وسائل الدفاع عن اوطانكم وممتلكاتكم وارباحكم، لكنكم تناسيتم ضرورة الدفاع عن خليتكم الحية، التي لولاها لما اخترعتم شيئا. جولتي حول العالم، اثبتت ان نظام الصحة القائم على الربح، لا اساس له من الصحة. انتم بحاجة لإعادة النظر في أولوياتكم الحياتية.

لقد اعتقدت اني سأستغل خوفه لأجعله يعترف بجريمته في حق البشرية، فإذا به يستغل خوفي ليجعلني اصمت ولا اعرف ماذا أجيب حول اتهاماته المحقة، باننا كبشر نرتكب شتى الجرائم، اين منها جريمته العابرة.

قلت لا بأس سأتحمل محاكمته لي، لكن لا بد من سؤال أخير.

- مع كل هذه القبائح التي نعتّنا بها، لماذا تبدو يا كورونا وكأنك تفضل الخلية البشرية، لتحيا من خلالها وتتكاثر؟

- انا لا أختار بل انتم تختارون. ألا تقولون "لقطنا الفيروس"؟ هذا يعني انكم انتم من يختارني. اما لماذا انتم اكثر من غيركم من الكائنات الحية الأخرى، فلأنكم كائنات إجتماعية، تقوم حياتكم على الاختلاط وتبادل ما لديكم، بما فيها الفيروسات والامراض. لهذا ربما افضّل خليتكم، فهي غنية وتختزن ما ورثتموه وما اكتسبتموه معا. وهذا ما يجعلني أترقى في عالم الكائنات الذي تتحكمون به. الا يكفيني ذلا انني "غير مرئي" بالنسبة لكم؟ الا تعرفون كم هو مؤلم ان يكون واحد منكم غير مرئي بالنسبة للآخرين؟ ألم يُفهمكم علماء النفس ان الذين يؤذون غيرهم اكثر، هم الذين يشعرون انهم غير مرئيين من الآخرين؟

- انا تعاملت معك كأني اراك. الا تحسب ذلك اعترافا بوجودك؟

- يعني انك في الواقع لا تراني. كيف عرفت بوجودي بالقرب منك اذاً؟

- نحن مهووسون بك هذه الايام ونفترض انك موجود في كل مكان. فافترضت وجودك وخاطبتك دون أن أراك.

- وإن لم أجب عن اسئلتك؟

- كنت تخيلت انك موجود، وكتبت عن حوار وهمي بيني وبينك.

- كم هو سهل عليك ايها الانسان ان تخلط بين الواقع والوهم.

يبدو ان كورونا ومن كثرة ما قضم من خلايانا اصبح يعرف الكثير عنا، حتى ربما أشياء عن جيناتنا، لم نكتشفها.

بعد كل ما قاله، لم استطع ان اقضي عليه بالمعقّم، وتمنيت ان يموت وحده قبل ان ينقض على خلية بشرية.

رحت اتأمل بدون خوف، طبيعة هذا الكائن غير المكتمل، الذي يناضل من اجل ان يترقى لمرتبة الحياة.

أحدث كورونا في دواخلنا صدمة وجودية قد تجعلنا نعلي شأن الحياة ونحافظ عليها، بدل ان نستمر في التأسسيس لمداميك الموت في معظم ما نقوم به.

كما دفعت هذه الصدمة الوجودية الى اقصى حد، هذا التناقض بين حاجتنا للآخر وخوفنا منه.

نعم، إن الآخر يمكن ان يكون جهنم كما قال احد الفلاسفة، وكما ذكّرني كورونا، مستندا الى سعينا الدائم الى قتل الآخر خدمة لمصالحنا.

لكن الآخر هو أيضا الجنة التي نبحث عنها.

يبدو ان الآخر يصبح جهنم عندما نخاف منه، ويتحول الى جنة عندما نحبه.

يبدو ان جهنم والجنة ليستا لا فوق ولا تحت، بل الى جانبنا. الطريق اليهما في داخلنا. ونحن نتنقل على الدوام، بين الاثنتين.

حتى الآخر ليس الا انا، وانا هو، في مكان آخر وفي ظروف أخرى.

ربما كان هذا هو المقصود عندما نقول، إن جهنم والجنة هما في داخلنا.

أريد أن أفترض ان كورونا يقضم جهنم في داخلنا، لذلك هو لا يرى الا سيئاتنا. الامل في هذه الحالة، ان تكبر وتتوسع مساحة الجنة في قلوبنا، بعد كورونا.

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم